العدالة التصالحية ومسار انحدار المعارضة

2021.01.06 | 00:06 دمشق

alljnt-aldstwryt1.jpeg
+A
حجم الخط
-A

تراجع المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، عن استخدامه مصطلح "العدالة التصالحية" في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، تحت ضغط موجة الانتقادات الواسعة التي قام بها معارضون وناشطون سوريون، ولم يجد بيدرسون سوى التذرع بـ"خطأ فني غير مقصود!"، والزعم بأن مصطلح "العدالة التصالحية" لم يستخدمه بعض أعضاء ممثلي المجتمع المدني (ولا يُعرف أي مجتمع مدني يمثلون)، وأنه أشار في إحاطته إلى "العدالة التعويضية في سياق الحديث عن السكن والأراضي وحقوق الملكية".

وبصرف النظر عن تذرع بيدرسون، فإن الخشية لتي أبداها سوريون كثر حياله هي من أن تكون إحاطته بمثابة محاولة لتمرير المصطلح واعتماده في وثائق الأمم المتحدة الخاصة بالشأن السوري، بما يفضي إلى أن تتولى قوى دولية، مثل روسيا، البناء عليه كمنهج في مسار الحل السياسي، وإلى اجتراح مسار أو سلة للعدالة التصالحية تضاف إلى سلال المبعوث الأممي السابق إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، وذلك في إطار تمييع القضية السورية الذي تسعى إليه روسيا، لينتهي الأمر إلى اعتبارها قضية سوء تفاهم أو خصومة بين طرفين، تقتضي التصالح عبر عملية "تبويس الشوراب" بين نظام الأسد ومعارضة على الطريقة الروسية، تحضيراً لإشراكها في انتخابات النظام الرئاسية المزمع إجراؤها في العام 2021 الجاري. 

بعض أوساط المعارضة السورية في الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض، استغلت موجة الاستنكار، كي تزاود وتبالغ في ردة فعلها المستنكرة لاستخدام المصطلح التصالحي

واللافت هو أن بعض أوساط المعارضة السورية في الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض، استغلت موجة الاستنكار، كي تزاود وتبالغ في ردة فعلها المستنكرة لاستخدام المصطلح التصالحي السيء الذكر بدلاً من مفهوم "العدالة الانتقالية" المعتمد أممياً، وذلك في محاولة للتخفيف من تبعات الموجة الغاضية ضدها في أعقاب تشكيلها المفوضية العليا للانتخابات، والإيحاء بعدم تفريطها بما نصّت عليه القرارات الأممية، لكي تغطي على سقاطتها وتنازلاتها وتمييع مواقفها، التي بدأت منذ انخراطها في مدرجات الرؤية الروسية للقضية السورية عبر مسار أستانة وتبعاته اللاحقة.

 غير أن أوساطاً أخرى في المعارضة، والمقربين منها، خرجوا علينا ممارسين الحذلقة والتذاكي، للزعم بأن من استنكر محاولة تمرير مصطلح العدالة التصالحية لم يفهمه، كما لم يميز بين أشكال العدالة الانتقالية وأخواتها التصالحية والتعويضية، وأن كلاً من مفهومي العدالة التصالحية أو التصحيحية والعدالة التعويضية لا تتعارضان قانونياً مع مفهوم العدالة الانتقالية بل جزء منها. وكأن المطلوب هو التخلي عن العدالة الانتقالية، والتنصل من محاسبة مسؤولي نظام الأسد عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبوها بحق ملايين السوريين.

ولعل المستغرب والمستهجن أيضاً هو أن تنزلق بعض أوساط المعارضة السورية إلى طرف المدافعين عن النظام، عبر تقديمها مختلف المبررات والحجج والذرائع "الواقعية"، من أجل تسويق تنازلاتها وتمييع مواقفها، والتي بدأت باستيعاب هيئات المعارضة ممثليهم، خاصة ممثلي منصة موسكو، بل ودمجهم في صفوفها في مؤتمر الرياض2، وانخرطت قبل ذلك في مسار أستانة الذي اجترحته روسيا بعد إسقاط أحياء حلب الشرقية، وتمكنت من الفصل بين المسارين السياسي والعسكري، لتتولى مهمة قضم مناطق التي كانت تسيطر عليها فصائل الواحدة تلو الأخرى، ثم انخرطت المعارضة في مخرجات مؤتمر سوتشي للحوار السوري 2018، من خلال مشاركتها في اللجنة الدستورية، معلنة قبولها اعتماد المدخل الدستوري بديلاً عن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، واعتباره مدخلاً وحيداً في عملية التغيير السياسي.

 والمشكلة أن مسار انحدار مواقف المعارضة في الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض لم يتوقف عند حدّ معين، لذلك فإن انخراطها في مفاوضات اللجنة الدستورية العبثية كان تتويجاً لسلسلة من التنازلات والسقطات المتتالية، وأفضى إلى دخولها في عملية تفاوض أو تسوية سياسية دون أسس أو محددات أو شروط، أهمها دون تحديد سقف زمني. والأدهى من ذلك كانت موافقة هيئة التفاوض على تفريغ دي ميستورا القرار الأممي 2254 من محتواه، عبر السلال الأربع التي اجترحها (الحكم الانتقالي، وصياغة الدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب)، وتلاعب بها، كي يتم البدء بالسلة الدستورية، نزولاً عند الإملاءات الروسية.

المعارضة تعي تماماً بأن السوريين لم يخرجوا في ثورتهم من أجل تشكيل لجنة دستورية، أو من أجل تعديل الدستور الحالي أو إعادة كتابته

ولا شك في أن اعتماد تشكيلات المعارضة على دعم بعض القوى الدولية وارتباطها بها، دفعها إلى الخضوع إلى مختلف إملاءات وضغوط تلك القوى المؤثرة، بناء على حسابات وتوازنات اللاعبين على الأرض والتجاذبات والمماحكات الإقليمية والدولية، وبالتالي فإن كل الكلام الذي ساقته كيانات المعارضة عن التمسك بالقرارات الأممية، بدءاً من بيان جنيف 1 لعام 2012 وصولاً إلى القرارين 2118 لعام 2013 و2254 لعام 2015، كان بمثابة مجرد كلام دون أي سند، لأن القرارات الأممية لم تقدم مسألة صياغة دستور جديد على عملية الانتقال السياسي. والأهم من ذلك هو أن المعارضة تعي تماماً بأن السوريين لم يخرجوا في ثورتهم من أجل تشكيل لجنة دستورية، أو من أجل تعديل الدستور الحالي أو إعادة كتابته ووضع دستور، ما يعني ببساطة أن القضية السورية ليست قضية دستورية، بل قضية سياسية، أساسها التغيير السياسي، بما يفضي الانتقال إلى نظام سياسي مغاير تماماً للنظام الأسدي، وبالتالي لا يندرج تشكيل اللجنة أو عملها ضمن القرار الأممي 2245، حسبما يزعم بعض المعارضين، لأن هذا القرار نص على عملية انتقال سياسي، غايتها تطبيق بيان جنيف-1 في حزيران/ يونيو 2012، وذلك عبر خطة مكونة من مرحلتين، الأولى تفاوضية مدتها ستة أشهر، وتنتهي بتشكيل هيئة حكم انتقالي شامل، وتنقل إليها كافة السلطات التنفيذية في سوريا، والثانية انتقالية، مدتها 18 شهراً، يوضع خلالها دستور جديد للبلاد وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.

ولعل التخلي غير المعلن عن جوهر القرارات الأممية، وخاصة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، يُتوّج مسار الانحدار الذي وصلت إليه مواقف المعارضة، وبالتالي ليس مستغرباً أن تظهر محاولات تسويق العدالة التعويضية والعدالة التصالحية بدلاً من العدالة الانتقالية، وذلك بعد أن تمّ تعويم اللجنة الدستورية المسخ، المشكلة من قبل الأطراف الدولية والإقليمية الخائضة في الدم السوري، وأغلبها يهمها مصالحها التي ترى في نظام الأسد ضامناً وحيداً لها.