العالم بين رحى الهشاشة والتفاهة

2021.11.03 | 05:45 دمشق

alnfaq_alamyrky.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عام 2006 كتب توماس فريدمان كتابه "العالم مستوٍ" والذي تحدث فيه عن عوامل عشرة، أسهمت بشكلٍ حادٍ في تسطيح هذا العالم، وكان في هذا الكتاب مسكوناً بأحلام ووعود العولمة، التي لخصها بمقولة أينشتاين (إن الخيال أهم من المعرفة)، ثم ما لبث أن طلع علينا في عام "2009" بكتابه "عالم حار ومسطح ومزدحم" يعرض فيه تدهور أوضاع العالم بسبب تدهور الحالة البيئية لكوكب الأرض، وتضعضع المواقف الأميركية عالمياً، الأمر الذي أنتج اضطراباً هائلاً على مساحة الكوكب الجغرافية والسياسية.

وبالرغم من الصلف الأميركي الظاهر في محاور الكتاب، الذي يرى أن الولايات المتحدة الأميركية هي بوصلة العالم ومركز توازنه، فإن سياسة الولايات المتحدة الأميركية خلال العقود الخمسة الأخيرة، وخاصة بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور ما سمي بالقطب الواحد، قد نجحت في ربط مراكز الثقل العالمية بها بشكل مدمر، وصار اضطراب موقع الولايات المتحدة مُفضياً بالضرورة إلى انهيار سياسات واقتصادات مرتبطة، تشكل الولايات المتحدة فيها قطب الرحى ومركز الثقل.

واليوم وبعد ما يزيد على عقدٍ من الزمن، وفي نظرة خاطفة إلى المشهد العولمي، نجد جملة من الإضرابات الكارثية تتعاور هذه القرية الكونية الصغيرة، التي باتت متصلةً بشكل غير مسبوق، اتصالاً تفضي به موجة عاتية في شرقه، إلى كوارث فورية في جهاته الأربع.

تتصاعد الأزمة الأكبر بين الصين كقوةٍ اقتصاديةٍ صاعدة، لا ترى ما يدفعها للتهدئة أو التوقف، وهي تشهد شيخوخة خصمها "الولايات المتحدة الأميركية" التي توظف كل أزمات العالم، لحسم تلك الأزمة لصالحها

اليوم يحاصرنا فيروس متناهي الصغر، يمكن جمعه كله في علبة كوكاكولا صغيرة، وهو مستمرٌ في تغيير أنماط حياتنا من أقصاها إلى أقصاها، وتستمر تداعيات وجوده وما خلفته من كوارث بشرية واقتصادية، بشكلٍ يصعب على أعتى مراكز الرصد وصنع القرار التنبؤ بما سينتهي إليه، خاصة أن النسخ المتحورة منه لم تتوقف بعد عن الظهور.

في الوقت ذاته تتصاعد الأزمة الأكبر بين الصين كقوةٍ اقتصاديةٍ صاعدة، لا ترى ما يدفعها للتهدئة أو التوقف، وهي تشهد شيخوخة خصمها "الولايات المتحدة الأميركية" التي توظف كل أزمات العالم، لحسم تلك الأزمة لصالحها، وهذا الصراع الذي لم يعد يدور بالخفاء كما كان سابقاً، يهدد بتسونامي اقتصادي وربما عسكري لا يمكن التنبؤ بساعة انفلات صاعقه.

كلا الحدثين السابقين يثيران زوبعةً عاتيةً من الإضرابات الاقتصادية والسياسية، التي تعبث بكل الخطط الاستراتيجية التي عكفت كبرى الشركات الاقتصادية على بنائها خلال عقودٍ خلت، وصار اضطراب الأسعار العالمية للمواد الأولية، التي تشكل عصب الصناعة والبناء في العالم، عرضة للتذبذبات العشوائية التي سترخي بظلالها على حياة مليارات البشر وتفاصيلهم اليومية.

ولا تكمن الهشاشة المدمرة في القضايا الكبرى وحسب، إنما تخترم تفاصيل حياتنا اليومية من أدناها إلى أعلاها، ويحاصرنا طغيان التفاهة في كثير من المواقع، وربما يشعل فيدو عابث لمراهق ما، وقد حمله بخطاب الكراهية حرباً في مدينة ويوقع قتلاً وتدميراً، وقد يفضي تعليقٌ في حوار تلفزيوني أو صحفي، إلى أزمة إقليمية أو دولية، وربما تنهار حكومات وتضطرب مصالح كبرى، كل هذا يشي بمدى الهشاشة التي أنتجتها ثورة الاتصالات وإتاحة العبث لكل من هب ودب.

وفي منطقة الشرق الأوسط وما يليها، يحار المتابع وهو يقلب الفضائيات ومحطات الأخبار أين يتوقف، وأين يتحصن باللامبالاة اللازمة ليحافظ على ما تبقى من رمقه النفسي الآيل للانهيار، فالأزمة النووية الإيرانية توحي أن المنطقة على شفير الهاوية، وتغوّل إيران في العديد من الدول العربية بدءاً من العراق وسوريا وانتهاء باليمن ولبنان، قد أوصل المنطقة لما يمكن اعتباره برميلاً من البارود على وشك الانفجار، هذا إضافة لما خلّفته انتكاسات الربيع العربي في مجموعة من البلدان، التي ما تزال نيران الأزمة تحرق مراكزها وأطرافها.

في هذا العالم المضطرب أين يسبح هذا الزورق السوري الضعيف الذي ثقبته السنوات وتعاقب على إنهاكه لؤم الأعداء وسذاجة الأبناء؟

في ثمانينيات القرن الماضي وفي معتقل تدمر على وجه التحديد، وخلال عشرين سنة كنت شاهداً على شطرٍ منها، كانت الحياة تسير منحصرة في مدار الساعات والدقائق القريبة وحسب، ولم يكن لها أن تتخطى حدود اليوم الواحد، حتى في مساحات التخيل أو الأحلام، فمقدار التعذيب اليومي المستمر وما تخلفه الأمراض وفقد الطعام والدواء، ولهاثنا الساعي للنجاة من سطوتها، يجعل التفكير في الغد أو فيما يمكن أن يأتي تالياً ضرباً من ضروب العبث أو المحال، وليس يخفى على متأملٍ كم يضيِّق هذا النمط المشوش من مساحات الحياة، بل يُحيلها إلى شبهة حياة ممسوخة، وهذا بالضبط ما نحياه اليوم في عالم يبدو للوهلة الأولى مفتوحاً على جميع الاحتمالات، التي يغلب عليها الطابع الكارثي، فأي اختلال بضبط النفس الذي يُمارس الآن عند حدوده القصوى، ستتساقط سلسلةٌ هائلةٌ من أحجار الدومينو، التي لا يمكن التكهن أين سينتهي بها المطاف.

في هذا العالم المضطرب أين يسبح هذا الزورق السوري الضعيف الذي ثقبته السنوات وتعاقب على إنهاكه لؤم الأعداء وسذاجة الأبناء؟

يذكرنا التاريخ الموغل في القدم بما سمي بالعقدة الغوردية، ففي عام 333 ق.م. في أثناء قضاء الإسكندر فصل الشتاء في غورديوم، حاول الإسكندر حل العقدة المعضلة، وعندما لم يجد طرفاً للحبل ليحل العقدة منه، قام بقطعه بضربة من سيفه، هل سيسعفنا المستقبل بإسكندر جديد، أم سننتظر غودو منقذنا المزعوم؟