العارفون بكل شيء

2020.06.02 | 00:06 دمشق

alarfwn.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتقدم المعرفة بإدماج عدم اليقين فيها وليس من خلال إقصائه عنها.

إدغار موران

يخرج مدير "المنظمة الحقوقية" معلقاً على عمل عسكري ما لينبئ المشاهدين بالخبر اليقين. فيسرد بعجالة تفاصيلاً عسكرية لا علاقة لها لا بالعير ولا بالنفير بحقوق الانسان. ليسترسل فيما بعد بإعطاء إحداثيات المكان وألوان ملابس ساكنيه، وربما نوع البهارات التي كان سيستخدمها قاطنو المنزل الذي أغارت عليه قوات يمكن له وبسهولة أن يحدد مكان انطلاقها كما ربما سيتلو علينا أسماء المشاركين مع الإشارة إلى نظام حميتهم الغذائي. ربما يحلو للبعض أن يقرأً فيما سبق نوعاً من السخرية المُسيّسة، إلا أن المتابع سيلحظ اختصاراً مجحفاً بحق المدير الموسوعة الذي لن يكتفي بالتأكيد بسرد ما سبق. إلا أن وقتكم كما وقتي ثمينان على تكرار المكرر. وأهم ما يُميّز حديثه هو اليقين الذي لا تكتنفه ذرّة من الشك. يقينٌ يتكرر إنتاجه في كل المواضع والمواضيع، فهو عالمٌ بكل ما يدور، ليس في سوريا وحدها، وإنما في مجمل عواصم الفعل والقرار فيما يخص الملف السوري من واشنطن الى موسكو، مروراً بعفرين وكومو.

أما صنوه في اليقين، المعارض الطبيب أو العكس، فهو سيسرد علينا، إما صوتياً عبر غرف الدردشة والفشفشة، أو صوت وصورة، عبر محطات تلفزة تبحث عن الإثارة دون دنس، معلومات ليست كالمعلومات، ولا يتردد في الحسم بحدوثها كما سمعها من فم مصدر مسؤول لم يقابله إلا في منامه. ويبدو له بأن اليقين الصوتي الذي يعتريه لا يكفي، فيعمد إلى الحديث عن نفسه مع سيرة ذاتية فيها توابل فيلم الإثارة خاصته من اعتقال إلى تعذيب إلى تشكيل مجالس إلى لقاءات زعماء إلى شهادات علمية إلى محاضرات غيّرت وجه العالم أو ربما الحاضرين فحسب. وفي فترة التوقعات التي تلت الخلاف العائلي في المنظومة الحاكمة السورية، خرج بتسجيلات يضع من خلالها دفتر شروط للعملية الانتقالية، وبرنامجاً محدداً لكافة الجهات من أجهزة أمن إلى قوات مسلحة رسمية وغير رسمية، وصولاً إلى تسمية من سيقود المرحلة. لا يتخلّل حديثه أي مجال ولو صغير الفتحة للشك حتى بإبرة غير مرئية. إن يقينه يتجاوز حتماً المُسلّمات الكونية دون أي حرج.

ثالثهما عالمٌ فعلاً في حقله إن اكتفى به، ولكنه يريد أن يكون أيضاً عالماً في كل شاردة وواردة، يحلو له لطفاً أحياناً أن يسأل رأي مخاطبه، فيصدق من أمامه بأنه يُريد سماعه، فيبدأً بتطوير وجهة نظر متواضعة، إلا أن العالم سرعان ما سيُقاطعه بابتسامة تحمل جرعة من السخرية مُشيراً إلى أنه سيعطيه الرأي الأهم وأن على المستمع أن يتعلم منه فهو العارف. وبما أنك أخي المواطن قد اخترت أن تجلس إليه، فما عليك إلا بالصمت والإصغاء إلى دروسه في كل مشارب الحياة الدنيا دون إبداء أي رأي ولو مؤيدا لما يطرحه، أو الرحيل.

ورابعهما هو معارضٌ شرس له تاريخٌ نضالي لا غبار عليه، يتطلّع إلى مخاطبيه عبر الشاشة بنظرة ملؤها الأبوية اليقينية الرافضة لأي مخالفة في جزء نيوتروني من الرأي الذي يطرحه. وهو أيضاً على صلة بكل صانعي القرار ومستشاريهم الذين يتصلون به ليل نهار ليطلعوه على ما يزمعون الإقدام عليه فيما يتعلق بالملف السوري. فإن حدثته عن تركيا، فهو من خلاّن الرئيس ومستشاريه، وإن تطرقت إلى فرنسا، فهو يلعب الفرنجية مع نزيل الإليزيه، وإن انتقلت إلى واشنطن، فمدخل البيت الأبيض قد أكل من قدميه، وإن عرّجت على موسكو، فالكرملين مربط فرسه الصهباء. يقينٌ متضخّم لا يشوبه أي لفظ أو تعبير يحمل شيئاً من الشك.

ما هي إلا نماذج لحالة تكاد تكون عامة تُصيب عدداً كبيراً ممن يتصدرون المشهد العام تحليلاً واستنتاجاً. وعلى الرغم من أن البحوث النفسية قد أثبتت نفع الشك لدى العالِمْ ودوره الفعال في إثراء علمه، فإن أصحابنا ومن لف لفّهم، قادرون حتى على أن يحدثوك بيقينٍ فادح عن ضرورة إسباغ شيء من الشك على الحديث في الشأن العام. وغالباً ما يكون هذا الدرس السوريالي مصحوباً بتوبيخٍ محدد يتعلق بمرة كنت فيها ـ أنت أخي المواطن الضحية ـ على شبه يقين في شأن سخيف، كأن تقول بأن الأرض كروية. هنا ستقع إذا في المحظور لأنك أطلقت هذا الحكم دون أية ذرة شك. أما هم، فأمور الكرة الأرضية كما الكواكب المحيطة بها مكشوفة لديهم في المطلق.

هل في الشك بما نعرف وبما نقول شيء من التواضع أم الذكاء أم الإثنين معا؟ على الأقل يمكن القول بأن من لا يحسم في أمور غير رياضية، هو إنسان عالم ولا مشكلة ثقة بالنفس لديه على عكس ما يُريد الآخرون الاقتناع به. فصاحب اليقين هو من يحتاج إلى ثقة النفس هذه ويشعر جليّاً بنقصها لديه مما يدفعه للتشبّث بأنه يملك المفاتيح كافة.

في فترة ترؤس جمهورية إيرلندا الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، دُعيت إلى دبلن لإلقاء محاضرة عن المؤسسات الأوروبية وعلاقتها ببلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط. في نهاية المحاضرة، بادرني أحدهم طالباً الصفح إن بدا في سؤاله بعض النقائص المعرفية المتعلقة بحقل البحث. وبعد السؤال والجواب، وأثناء مغادرتي للقاعة، تقدم مني شاكراً، معرّفاً نفسه بشهادته وبجامعته، فسألته عن مكان عمله الحالي، فأجابني وهو يهمّ بركب دراجته، أنه كمهنة وزير للخارجية.