الطواحين السياسية

2020.11.18 | 23:29 دمشق

18766521-079b-47bb-b337-70a1679d66b2.jpg
+A
حجم الخط
-A

ذكرت الروايات أن الرئيس السوري شكري القوتلي قد أرسل رسالة  إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، معلقاً على توقيع اتفاقية الوحدة بين البلدين في شباط 1958م. قال فيها: «أنت لا تعرف ماذا أخذت ياسيادة الرئيس! أنت أخذت شعباً يعتقد كلّ من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون فى المئة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد 25 فى المئة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة فى المئة على الأقل أنهم آلهة".

ذلك أن السوريين كانوا يعدون من أكثر الشعوب وعياً سياسياً، ومن كان منهم لا يعمل في السياسة فقد كان في أقل الاحتمالات قارئاً أو منظراً في الشأن السياسي.

ربما كانت تلك الحادثة الفريدة هي الوحيدة من نوعها في تاريخ الحياة السياسية السورية، التي يتنازل فيها رئيس دولة عن منصبه من أجل رئيس آخر ومن أجل مصلحة صنفها على أنها عليا.

في تلك الحادثة اختصار ربما لواقع الفكر السياسي الذي كان رائجاً في تلك الفترة، فعلى الرغم من تنوع الأحزاب السياسية وتعددها واختلاف مناهجها، إلا أنها كانت تتفق على أهداف مشتركة وواضحة على الرغم من اختلاف الأشخاص القائمين على تطبيق الاستراتيجيات وتنفيذها، واختلاف توجهات مناصري تلك الأحزاب.

كأن ما كان يجمع بينها هو نوع من العزف الجماعي المنسجم الذي يشكل تناغماً سياسياً، في عزف النوتة الموسيقية الواحدة على الرغم من اختلاف الآلات.

بغض النظر عن دقة فحوى رسالة الرئيس القوتلي الذي ورد في شهادات كثيرين من الكتاب والإعلاميين الذين عاصروا تلك الفترة، فإن السوريين بمختلف شرائحهم يعتبرون أنفسهم قارئي سياسة من النوع الجيد، ولو أن ذلك ينافي في المنطق ما وصل إليه تردي الوضع السياسي الحالي في سوريا.

فعلى ما يبدو أن تاريخ الأحزاب السياسية  لم يؤثر على السلوك الجمعي ولم يشكل ثقافة سياسية عامة، وربما من باب الإنصاف أن لا نتناسى أن سبب ذلك قد يعود إلى الفجوة التي عشناها تحت سيطرة الدولة البوليسية وحكم الحزب الواحد، التي مهدت لمرحلة انحدار سياسي تبعها ركود وجمود على الساحة السياسية العامة.

في تلك الفترة نشطت الأحزاب السرية وعملت التجمعات والتنظيمات بطريقة تبعدها عن نواظر المخبرين وفروع الأمن، فكانت تقتصر على وجود مجموعة من الأفراد الموثوقين لتداول الأمور الأساسية، لكن تلك التدابير الاحترازية أدت في الوقت نفسه إلى فجوة أخرى بين الأحزاب وبين القاعدة الشعبية، ذلك أن تلك الطريقة اعتمدت على تشكيل قيادات حزبية وتطوير منطلقات نظرية، متخذين طريقة البناء العمودي وعدم الاهتمام بالقاعدة، ما أدى إلى وقوعنا كشريحة عامة في فخ التنظير السياسي وفي بعض الأحيان المراهقة السياسية.

المشكلة التي وقعت بها الأحزاب في فترة العمل السري في حقبة حكم الأسد وإحكام القبضة الأمنية، أنها اكتفت بالتوسع الشاقولي ضمن صفوف الحزبيين العاملين والناشطين، من دون العمل على تشكيل قاعدة جماهيرية ممتدة بشكل أفقي لتشمل الشرائح الأقل تعليماً أو الأكثر فقراً، وذلك ربما أمر طبيعي في ظل انتشار المخبرين وتفشي الاعتقالات التعسفية، لكنه لا يعفي من المسؤولية المجتمعية التي كان من الواجب أخذها بعين الاعتبار.

بعد انطلاق الثورة السورية وبحكم أننا نعد أغراراً في العمل السياسي، كان من الطبيعي أن يبدأ الناشطون بتلمس الطريق والتعثر أو ما يمكننا الاصطلاح عليه بـ"الحبو السياسي"

الطرافة هنا تكمن في أن الخمسة ملايين سوري الذين قصدهم القوتلي من الشعب السوري، استطاعوا أن  يشكلوا ربما خمسة ملايين حزب في الفترة التي تلت اندلاع الثورة السورية في آذار 2011،  لكنهم ما زالوا يصطدمون بمورثات الحزب الواحد الذي يهدف إلى قيادة الدولة والمجتمع مرتكبين أخطاء مماثلة كإقصاء الآخر وتخوينه وإسقاط وطنيته أو حقوقه، من دون أن تُشكل مؤسسة متكاملة ذات هدف واضح سوى احتكارها لتمثيل الشعب السوري أو التحدث باسمه. 

في حادثة مشابهة فإن تاريخ سوريا بعد الاستقلال كان عامراً بنشاط الأحزاب السياسية، وقد كانت المرأة موجودة بشكل فعال، إلى أن تضاءل نشاطها بشكل تدريجي مثل المكونات الأخرى بعد سيطرة الحزب الواحد.

بعد انطلاق الثورة السورية وبحكم أننا نعد أغراراً في العمل السياسي، كان من الطبيعي أن يبدأ الناشطون بتلمس الطريق والتعثر أو ما يمكننا الاصطلاح عليه بـ"الحبو السياسي".

لكن من غير الطبيعي أن يحاول الثوريون الساعون للتخلص من الاستبداد، الإبقاء على تركة دول الاستبداد، ما ينتج عنه في بعض الأحيان محاربة وجود المرأة والخلاف على وجود كوتا نسائية ضمن التنظيمات والمؤسسات السياسية، أو محاولة تقليص الوجود النسائي بحجة عدم التوازن، أو لأن أعداد الرجال العاملين في السياسة أكثر من أعداد النساء، لتواجه المرأة محاولة الدفاع عن وجودها من جديد قبل الانتقال إلى المطالبة بحقوقها.

لقد اتخذت الأحزاب السياسية منهج التنافس حول السلطة من دون أن تباشر العمل على البيئة السياسية أو المحيط الجماهيري بالعموم، فأصبحت السياسية حكراً على طبقة بعينها غير مهتمة في كثير من الأحيان لأزمات السوريين ممن يحتاجون أن يقطعو أشواطاً للوصول إلى استيعاب الوضع السياسي العام، أو ممن قد لا تعنيهم السياسة بقدر ما يعنيهم رغيف الخبز. 

مازال الواقع السوري يعاني من الفراغ والمراهقة السياسية، بوجود لاعبين دوليين استطاعوا تحريكنا كدمى خلال عشر سنوات، من دون أن ننجز تقدماً ملحوظاً على مستوى السلطة والمؤسسات، سواء في الداخل السوري أو في الخارج الذي يعاني من تمزق وتشرذم واضحين شكلا هشاشة في الموقف السوري، الأمر الذي يجعل البيئة خالية من مقومات العمل السياسي مادام القصد من كثرة الأحزاب هو التنافس لا التكامل وتحقيق الهدف المشترك، والنتيجة الجلية التي وصلنا إليها اليوم أنه في الوقت الذي جعجعنا فيه يبدو أن أحدهم قد أنتج طحيناً.