الطائفة المتخيلة وواقعية مجزرة التضامن

2022.06.08 | 06:49 دمشق

port-recovered.jpg
+A
حجم الخط
-A

في حفرة التضامن سال الموت طافحاً على أطراف الروح، وغطى الجنون مساحة المشهد، وتآكلت حروف الكلمات، وهوت الذكريات بلا قاع، ومات أمل الأمهات، وغابت دموع الوداع، وتكسرت أمنيات اللقاء في هاوية الموت الجهنمية، وفاضت المأساة على حدود التعبير فعجزت الكلمات عن لملمة المعنى، وامتلأ الفضاء ألماً وخوفاً ورعباً، وتجمعت كل أدوات التعبير كي تصف الحالة لكنها لم تُنتج إلا دمعة وغصة ما زالت عالقة في الحلق.

من هول المذبحة واستسهال الموت أمام الكاميرا تهتكت روح الضمير، ومن ردة فعل القاتل وبرودة دمه وهو يتحرك بلا ملامح إلا من صوته ونبرته التي تحيل إلى بعد طائفي خبره السوريين على مدى عقود تصاعدت الأصوات وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات بالمقالات والتعليقات واصفة ما يحدث أمام حفرة جهنم بأنه حدث طائفي بامتياز بدوافعه ومنفذيه وضحاياه، وأصبح التجييش الطائفي هو العنوان الرئيس للمقتلة السورية؛ في المقابل حاول البعض أن يضفي على هذه المذبحة بعداً عقلانياً بإرث يساري خوفاً على "اللحمة الوطنية"؛ وعلى مبعدة من الضمير والأخلاق اصطف البعض مع القاتل وبرر للمجرم فعلته من حيث هي ثأر شخصي وردة فعل على مأساة فردية.

تناثرت الآراء فوق صفحات التواصل الاجتماعي وزادت الحيرة في تفسير كمية الحقد التي تجعل من الإنسان، أي إنسان، أن يقترف مقتلةً ومجزرة دون أن يرف له جفن.

هل فعلاً الطائفية هي السبب وراء هذه الجريمة، وكيف أوصلت الطائفية شاباً في مقتبل العمر لكي يكون قاتلاً وبهذه الفظاعة وبهذا القدر من البشاعة.

كل ما حدث وكل هذا الهول يحيل إلى أسئلة حول الطائفية ودورها وكيف نشأت؟ وما هو دور الدين فيها؟ وهل هي حكراً على دين معين؟  ومن هم أصحاب الفعل فيها؟ ومن هم المستفيدون؟ وكيف قام القاتل بدور الدولة من حيث هي صاحبة احتكار العنف؟ وكيف اعتبر نفسه هو الدولة والدولة هو، وهو "النحن" والآخرون هم "الهم" الذين لا مشكلة في قتلهم وحبسهم وتشريدهم؟!

وإذا كان الحال هكذا وبهذه الأهمية فإلى متى سيبقى موضوع الطائفية مخبأ تحت الرماد ويكون الاقتراب منه وكأنه تجاوز لحدود المحرمات.

أمام هذه الحالة وهذا الكم الكبير من الأسئلة والتنوع المرعب من المتناقضات والتحليلات والآراء عدت إلى كتاب عزمي بشارة "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة" علني أقترب من تفسير هذه الظاهرة.

يميز عزمي بشارة في البداية بين الطائفة، والطائفة المتخيلة، والطائفية ويؤكد أن ما يقوم به في هذا البحث هو "التمييز بين الطائفة بوصفها كياناً اجتماعياً أقرب إلى الجماعة والطائفة المتخيلة التي يحاول الكتاب أن يثبت أنها نتاج الطائفية، وتحديداً الطائفية السياسية"

أسئلة كثيرة تدور في الذهن، لكن عزمي بشارة يكثف السؤال ويتركنا أمام مئات الصفحات كي يوضح الصورة مبتدئاً كتابه بالتساؤلات التالية: "هل الصراعات السياسية التي تهز المشرق دينية أم طبقية أم قومية؟ وما معنى طائفي؟ وهل كانت الطائفية موجودة دائماً؟ وهل تبقى في المستقبل؟" ص14

وللإجابة عن هذه الأسئلة يميز عزمي بشارة في البداية بين الطائفة، والطائفة المتخيلة، والطائفية ويؤكد أن ما يقوم به في هذا البحث هو "التمييز بين الطائفة بوصفها كياناً اجتماعياً أقرب إلى الجماعة والطائفة المتخيلة التي يحاول الكتاب أن يثبت أنها نتاج الطائفية، وتحديداً الطائفية السياسية" ص15

ولكي نكون متساوقين مع فكرة الكتاب لنبتدأ بالحديث عن الطائفة ورؤية بشارة لها كمكون اجتماعي حيث يرى أن "الطائفة الدينية في عصرنا جماعة متخيلة مؤلفة من أتباع دين أو مذهب. وقد أعادت بناء منشئها وأصولها ونصوصها وسلسلة مؤسسيها ومورثها الشفهي والروحي بما يسبغ عليها بواسطة التخيل سمات التماسك والوحدة". ص217؛ وهي بهذا المعنى "تشكل أساساً اجتماعياً وثقافياً تنطلق منه الطائفية السياسية وتساهم في إنتاجها وتعيد إنتاجها كطائفة متخيلة حتى بعد اندثارها، هي التي يتمكن الأفراد من تخيل الانتماء إليها في ما يتجاوز الأهل إلى دولة بأكملها، أو حتى ما يتجاوز الدول". ص446

إذاً "الطائفة ليست ظاهرة حديثة، بل الطائفة المتخيلة هي كذلك" ص16؛ والسبب في ذلك أن "الطائفية المتولدة في الحاضر تقوم عملياً بإنتاج الطوائف، بتحويل الانتماءات الدينية والمذهبية هذه إلى جماعات متخيلة تشكل مرجعية سياسية للأفراد الذين ينتمون إليها.. الطائفية في عصرنا تُنتج طوائف هي جماعات متخيلة، وذلك خلافاً لتصورات رائجة حول مجرى الأمور". ص79

ويؤكد عزمي بشارة على هذه النقطة لكي يزيح اللبس الحاصل حول أسبقية الطائفة، والمتخيلة تحديداً، بالنسبة للطائفية فيقول: "ليست الطائفة هي التي تنتج الطائفية، بل العكس، مع الانتباه إلى أن الطائفية، في هذه المرحلة التاريخية، تنتج الطائفة كياناً متخيلاً؛ أي تعيد إنتاجها على مستوى مختلف في شروط تاريخية وسياسية جديدة، وبوظائف جديدة، كما أنها تصنع لها تاريخاً". ص20

وهنا يكمن الفرق الذي يشير له عزمي بشارة بين الانتماء لجماعة اجتماعية أو دينية وبين انتمائه إلى الطائفة المشكلة بفعل الطائفية، والطائفية السياسية بشكل خاص، حيث يقول: "عاش الفرد في الفرقة الدينية، والطائفة الدينية المحلية باعتباره جزءاً عضوياً منها. أما الطائفية، فلا تعني أن يعيش الفرد في الجماعة. بل الجماعة تعيش فيه؛ إنها تسكنه حتى لو لم يتشارك القيم معها بالضرورة". ص31؛ وهذا يمكن أن يكون الرد على من يقولون إن مرتكب مذبحة التضامن قام بهذه الفعلة بشكل فردي وليس لفعلته بعد طائفي، لأنه في هذه الحالة وحتى لو كان فرداً فإن الجماعة تعيش فيه وتسكنه وأي تصرف منه يعيدنا إلى البعد الطائفي الذي يسكنه ويتماهى معه كجزء من طائفة متخيلة.  وخاصة أن الطائفية "تعكس وظيفة الهوية بإحلالها محل القيم، والتعصب محل المعايير الأخلاقية، ما يؤدي إلى طمس الحدود بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وإحلال الحدود بين "نحن" و"هم" في مكانها" ص15؛ وفي نهاية المطاف فإن "الطائفية ظاهرة اجتماعية وليست خياراً سياسياً فردياً". ص25

يمايز عزمي بشارة بين الدين وعلاقته بالطائفة أو علاقة الطائفة به من جهة، وعلاقة الدين بالطائفية من جهة أخرى حيث إن "الطائفية لاتُعنى بنشر الدين بل بوضع حدود له، فالطوائف هي تثبيت حدود أتباع معتقد ما اجتماعياً، وهذا يتطلب حراساً لهذه الحدود وفي حين أن الدين قام على أساس نشره بين غير معتنقيه.

وليس مصادفة أنه في حالة الفرق المغلقة التي لا تقوم بالتبشير مثل العلوية، أو تمنعه، مثل الدرزية، يتطابق الدين والطائفة، ويمكن أن ينتمي المرء إلى الطائفة حتى من دون أن يعرف ما هو دينه. فالحدود المطلقة للطائفة تهمّش الدين نفسه، وتصبح الطائفية هي الدين. إنه إيمان الأفراد بالجماعة، وليس إيمان الجماعة بدين معين". ص50. ويذهب بشارة في التفسير إلى درجة القول بأن الطائفية قد تكون عكس الدين "نحتاج ربما هنا إلى تأكيد أن الطائفية في عصرنا ليست غير الدين فحسب، بل قد تكون عكس الدين أيضاً. وذلك ليس فقط لاعتمادها التعصب لجماعة بدل التعصب لنص أو قيم دينية، بل أيضاً لأنها تقوم بوضع حدود انتشار الدين الجغرافية ولتثبيت هذه الحدود بوصفها فروقاً وهويات". ص421؛ "فالحدود المطلقة للطائفة تهمش الدين نفسه، وتصبح الطائفية هي الدين. إنه إيمان الأفراد بالجماعة، وليس إيمان الجماعة بدين معين". ص421

وهذا ما يجعل الطائفية جلباباً مصنوعاً من قماشة الدين لكنّها مفصلة على مقاس مجموعة معينة من البشر تربطهم مصالح وتحاصص في بنية نظام اجتماعي سياسي معين وخاصة في امتلاك المفاصل الرئيسية للدولة لأنه، وبحسب ما يرى بشارة: "الشعور بملكية الدولة هو امتياز معنوي يساهم في إنتاج جماعة متخيلة تملك الدولة، ويمنح شعوراً بالتفوق والثقة، فالامتيازات ليست مادية فحسب. وهذا الشعور بأن الإنسان ينتمي إلى جماعة تملك الدولة.. أو إلى جماعة أخرى محرومة من "امتلاك" الدولة أو من حصة مناسبة فيها، هو أحد أهم مصادر الطائفية المعاصرة". ص39

وربما من أهم مظاهر ذلك التفوق وتلك الثقة وهذا التحول من الطائفة كجماعة دينية إلى طائفة متخيلة هو تلك اللهجة التي تحيل إلى البعد الطائفي والتي طغت على مشهد مذبحة التضامن، تلك اللهجة التي كانت إحدى تجليات هذا التحول حيث كان أبناء الطائفة كجماعة دينية اجتماعية عندما يأتون من قراهم إلى المدينة يحاولون أن يخفوا لهجتهم أو يحاولون تقليد لهجة أهل المدن، ولكن بعد أن تحولت الطائفة لطائفة متخيلة عن طريق الطائفية السياسية وأصبحت الطائفة هي الدولة، واعتبر القاتل نفسه الممثل الشرعي لتلك الدولة، أصبحت تلك اللهجة ترتفع وتسود، وأصبح "الآخرون" يقلدونها لأنها أصبحت تعبيراً عن السلطة والقوة والبطش ويتفاخرون بتلك اللهجة ويبرزونها كأداة انتماء إلى مركز القوة، فترى القاتل يهيمن بها على صمت الموت وبقايا الأنين المتصاعد من حفرة التضامن.

الطائفية "تُعنى بالمصالح الافتراضية لجماعة الهوية، كما صاغتها قيادة هذه الجماعة لمصلحتها هي، وصاغت بذلك هوية هذه الجماعة أيضاً، حتى باتت تشمل المتدين وغير المتدين في إطار ديني، وليس ذلك بوصف الدين عقيدةً أو إيماناً، بل بوصفه هويةً دنيويةً لطائفة متخيلة من البشر". ص449

ومن الأمثلة العينية التي يأتي بها بشارة حول الإطار الذي يجمع الطائفيين خارج إطار الدين والطائفة هو نظام الأسد فيقول: "وحتى لو افتُرِض أن نظام الأسد طائفي، فإنه لم يكن قطُّ نظام الطائفة العلوية، إذ كان العلويون المعارضون من أبرز ضحايا النظام بمن فيهم الذين ينتمون إلى عشيرته نفسها. وهذا مفهوم في ضوء أن المثقفين المنحدرين من أوساط علوية قد شكلوا أحد خزانات المعارضة للنظام من منطلقات يسارية". ص456

وهنا تحضرني حادثة تؤكد ما ذهب إليه بشارة ففي عام 1989 في سجن صيدنايا جناح ألف يسار حيث وصل عددنا في المهجع الرابع في بعض الأيام 20 معتقلاً سياسياً كان بينهم 13 علوياً.

إن الاقتباس السابق حيث يقول بشارة "وحتى لو افتُرِض أن نظام الأسد طائفي" ربما يثير تساؤل البعض حول "افتراض" بشارة بأن نظام الأسد طائفي وليس الإقرار بطائفيته وخاصة أن كل ما توصل إليه في الكتاب وشرحه بخصوص الطائفية يثبت طائفية هذا النظام الذي صاغ طائفة متخيلة مرتبطة بالمصالح وتقاسم الحصص، أساسها الطائفية السياسة والتي جعلت الديمقراطية وحتى الدولة بمفهومها الحديث مستحيلة.

ولتوسيع قاعدة الأتباع للطائفة للمتخيلة "غالباً ما تسعى الطائفية السياسية الى أثننة الطائفة الدينية، أي التعامل معها باعتبارها جماعة يشترك المنتمون إليها بصفات موروثة ثابتة منفصلة عن الإيمان بالدين، وباعتبار التبعية التاريخية لهذا الدين كافية لتشكيل أسطورة الطائفة والذاكرة التاريخية" المظلومية والأمجاد الغابرة في آن معاً و"الصفات الثقافية المشتركة". ص86

وهنا تلعب المظلومية واستجرارها من عمق التاريخ وتهويلها وإسقاطها على الحاضر دوراً مهماً في توسيع القاعدة وجمع الأتباع وخلق المبررات عند الطائفيين للثأر من الآخر والمختلف حيث يقول عزمي بشارة حول هذه الحيثية: "في المجتمعات التي ابتليت بالطائفية تعتبر جميع الطوائف مظلومة، ولجميعها تاريخ من الظلم والقهر، ولجميعها ظاهرة قتل النساء والأطفال وهتك الأعرض، ولجميعها شهداء تعلق صورهم، ومناسبات تحيي فيها ذكراهم وذكرى المذابح التي وقعت في حقهم. الجميع مظلوم في أرض الطائفية. الطوائف مظلومة بحكم تعريفها" ص487؛ والمظلومية هي أحد الأسلحة الهامة في استغلال الطائفية والتجييش الطائفي. "ولا تجري أسطرة المظلومية وإضفاء التخيلات عليها وتقديس دور الضحية من أجل تحقيق عدالة ما، بل من أجل تحويلها إلى رأس مال رمزي للجماعة في يد قوة سياسية تمثلها وتكون قادرة على استثماره بمبادلة غبن الماضي مقابل تعويضات في الحاضر، وذلك عبر "الإنجازات السياسية" المترجمة إلى امتيازات" ص488 وما صيحات "لبيك يا حسين، زينب لن تُسبى مرتين" إلا مثال عن حالة الاعتماد على "غبن" الماضي واستثماره كمكاسب ونصر في معركة الحاضر والمستقبل.  

الطائفية ليست حتمية تاريخية وليست جزءاً من دورة الحياة وحتى لو تعددت الطوائف والفرق، وتلونت المذاهب والملل، بل لها أسبابها، ومن أهمها "فشل الدولة الوطنية معطوفاً على الصراعات الإقليمية، أدى إلى الطائفية السياسية، ونشوء الطوائف المتخيلة. وفي حين قادت الحروب الدينية في أوروبا إلى الدولة بمفهومها الحديث بحثاً عن السلم الأهلي، فإن فشل الدولة في العالم العربي أفضى إلى الطائفية السياسية". ص22. ويؤكد عزمي بشارة على تلك الفكرة فيقول: "في ظروف فشل بناء الأمة، وعندما تجري عملية العلمنة في ظروف هيمنة الثقافة الدينية، وعندما يُدفع الدين من طرف الدولة إلى الحيز الخاص، ولا سيما في حالة انعدام المشاركة السياسية عبر تشكيل الأمة، يعود الدين فيقتحم الحيز العام بوصفه حركة سياسية دينية، وفي حالات أخرى بوصفه هوية جماعيةً معارضة، أي بما هو طائفة". ص440

إذا استحكمت الطائفية في بنية المجتمع والدولة فسيبقى في مستنقع الاستبداد والدكتاتورية لأن الطائفية حسب عزمي بشارة "لا تلبث أن تتحول إلى عائق أمام مشاركة المواطنين في المجال العام في الدولة، كما أنها تشكل عائقاً أمام التحول الديمقراطي

فالنظم السياسية العربية كما يرى بشارة "تسعى لتأسيس ذاتها على أنماط من الهوية الطائفية أو العصبية العشائرية في أجهزة السلطة لضمان ولائها، سواء أكانت هذه النطم جمهورية أم ملكية، راديكالية أم محافظة. وفي هذه الحالة، حتى الأغلبية غير المطيفة تبدأ بالتصرف ك "طائفة"، حين يسود في أوساطها شعور بأنها مضطهدة ومقموعة الهوية، وتتبنى الأكثرية أدوات التعبير الأقلياتية". ص441

وإذا استحكمت الطائفية في بنية المجتمع والدولة فسيبقى في مستنقع الاستبداد والدكتاتورية لأن الطائفية حسب عزمي بشارة "لا تلبث أن تتحول إلى عائق أمام مشاركة المواطنين في المجال العام في الدولة، كما أنها تشكل عائقاً أمام التحول الديمقراطي. وذلك للأسباب التالية:

١ – تناقض الطائفية السياسية مع مفهوم المواطنة الفردية وممارستها.

٢ – تتناقض الطائفية السياسية مع مفهوم الأمة صاحبة الإرادة والسيادة.

٣ – تجهض الطائفية السياسية التحول بأخذها التعددية السياسية إلى مسار آخر غير مسار التعددية الديمقراطية.

٤ – تطابق الطائفية السياسية بين الأكثرية والأقلية الطائفية والأكثرية والأقلية الديمقراطية في حالات التعددية الطائفية التي تسود فيها أكثرية طائفية، ويستخدم هذا التطابق ليكرس تمثيل الزعامات الطائفية لمصالح الأكثرية.

٥ – غالبا. ما تستدعي الطائفية السياسية استثمار المقدسات والرموز ضد مجموعات مواطنية أخرى، وتدخل المؤسسة الدينية في عملية تعبئة الجمهور، وترسخ كونها أحد مصادر الشرعية في العمل السياسي.

٦ – إن عدم وجود فكر أو برنامج ملزم للزعامة الطائفية، عدا الانتماء الطائفي نفسه، يجعل مواقفها متقلبة، متعلقة بما تحدده هي بوصفه مصالح للطائفة، ومن ثم لا يمكن التنبؤ بها إلا على نحو محدود". ص472

وربما يكون من أهم الأسباب لمعالجة الطائفية هو الاعتراف بوجودها لمعالجة أسبابها ونتائجها ولكن ليس عن طريق خطابات التجييش وإظهار الحالة وكأنها صراع هويات لا يستقيم الوضع والانتهاء منها إلا بانتصار إحداهما على الأخرى ومحوها، ولا عن طريق تجاهلها وكأن شيئاً لم يكن.

وفي هذا السياق ينتقد عزمي بشارة اليسارييين والوطنيين من وموقفهم من الطائفية فيقول "ينزع اليساريون والقوميون، بل الوطنيون عموماً، إلى تجنب بحث موضوع الطائفية، وكأن بحث الموضوع يوقظ هذا التنين من سباته، على نحو غدا فيه محرماً، أو غير مقبول بالحد الأدنى.

ويسود مثل هذا التهيب من الخوض في الموضوع والتردد في معالجته حتى في زمن سفور الصراع الطائفي. ويصل التطهر من أي لوثة طائفية إلى درجة تطهير الشعب كله وحتى تاريخ البلاد من أي نوع من الطائفية"ص74؛ "ونحن في بحثنا هذا نتفق مع هذه المقاربة، أي أن التعامل مع التنوع وعدم إنكاره هو الطريق لمعالجة القضايا المترتبة عليه". ص72

ويلتقط بشارة بنظرة خبيرة ومجربة مغالطتين "ميزتا اليسار في مسألة الطائفية وهما:

١ – فرض التقسيم الطبقي على البنية الاجتماعية ما قبل الحديثة، واعتبار الطوائف تعبيرات عن صراع طبقي.

٢ – محاولة فهم التاريخ الشيعي كتاريخ المظلومين وإسقاط التقسيم بين اليسار واليمين على التاريخ كأن الشيعة كانوا اليسار الإسلامي". ص47

وبناءً على ما تقدم لمعنى الطائفة والطائفية فإن كل الحلول التي فاضت بها وسائل التواصل الاجتماعي والآراء والمقالات التي تحمل في جوفها الاستئصال والإقصاء والمحو لطائفة بعينها ما هي إلا وسيلة سهلة للدخول في دوامة الموت والدم التي لا تنتهي. لذلك يمكن القول إن مجزرة التضامن بقاتلها وضحاياها وشكلها لم تكن المجزرة الطائفية الأولى ولن تكون الأخيرة في بلاد اهترأت وتآكلت بناها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية ما لم تتحقق دولة المواطنة والديمقراطية وهو ما يشير إليه عزمي بشارة فيقول: "ما يضمن التنوع الطائفي والتعددية السياسية هو الدولة وقوانينها. وما يضمن التنوع هو حياد الدولة بين العقائد والديانات وتشجيعها التسامح، وحتى العيش المشترك في ما بينها، ….. أما ما يضمن التعددية السياسية، فهو ديمقراطية الدولة". ص503