"الطأطأة السورية".. استراتيجية الدوران داخل الحلقة المفرغة

2021.10.27 | 06:43 دمشق

mastr2.jpg
+A
حجم الخط
-A

أنْ نمعن التدقيق في الإطار العام الذي يتحرك فيه سوريّو الداخل، هو أمر في غاية الأهمية، لا سيما أنّ النظام الحاكم أمسك بالدولة السورية كرهينة، لكونها أعظم موارده ومكتسباته، ذلك أنّ سلوكياته وكلّ ما يتعلق بها، تفكيراً وممارسة بالشأن العام، هي أشبه بالهواء الذي يحيط بنا ونتحرك داخله، بصفتها عاملاً وثيق الصلة بكلّ مظاهر وتجليات الفعل الإنساني سواء أحببنا ذلك أم كرهناه. خذ على سبيل المثال: " أكثر من 80% من السوريين يقبعون تحت خط الفقر والقهر.. انهيار العملة الوطنية في ظلّ الغلاء الفاحش.. الموت الجماعي المتمخض عن "جلطات القهر" التي يُعلّل سببها بالإصابة بوباء كوفيد-19.. انفجار حافلة مفخخة وسط العاصمة دمشق تودي بحياة (14) موظفاً وثلاثة جرحى.. استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين الأبرياء.. إهانة الثقافة والمثقفين والزجّ بهم في السجون.. فرض غرامة مالية على من يقوم بأفعال غير أخلاقية داخل الحدائق العامة.. أزمة كهرباء خانقة في ظلّ تسرب الفيول حتى سواحل قبرص الشمالية.. يحقّ لكل شخص ربطة خبز واحدة كلّ ثلاثة أيام.. عودة رفعت الأسد إلى البلاد.. دفع مئة دولار قبل الدخول إلى سوريا.. افتتاح مكتب لـتعدد الزوجات تديره امرأة في مدينة اعزاز شمالي حلب.. الخ".

في الحقيقة كلّ من يجزم بأن هذه "المانشيتات" هي مجرد عناوين عبثية لا يرتبط بعضها ببعضٍ ارتباطاً عضوياً وثيقاً، فهو بالضبط كمن يرى رأس جبل الجليد العائم ويتغافل عن أربعة أخماسه المغمورة. بناء عليه يسعنا التسليم بأنّ كل ما يحدث اليوم، من قهر وإذلال وإفقار، ليس مفرزات حرب أنهكت البلاد والعباد، إنما هو تداعيات طبيعية لحالة مرضية من الازدواجية والاستلاب والطأطأة، تملّكت المجتمع السوري طوال خمسة عقود، في ظلّ نفور شعبي أخرس من أداء "القوة السياسية الغاشمة" داخل الحيز المدني.

إن كنا نتحدث عن هرطقة سياسية ممنهجة من قبل نظام الأسد، فنكاد نجزم أن هذه المعاناة ناجمة عن حاكم منفصم ومغيّب، لا يعي الفرق بين الدولة والنظام، جرّ البلاد وببساطة مذهلة إلى الجحيم

لسان حال الواقع السوري يقول إنّ ظاهرة "الطأطأة السورية" باتت فلسفة أصيلة سوّقها نظام براغماتي خبيث عمل بحرفية مدهشة على عملية تقزيم الحياة السياسية، لتقوم تدريجياً على سيطرة أحادية على شتّى النشاطات المجتمعية والمدنية والإعلامية، ما أدى إلى ظهور مجتمع مستقيل متشرّب بالعنف النفسي، المعتمد على أساليب الانتهاك لجوانيّة وإنسانيّة السوري، بغرض زجّه في أوضاع هستيرية من القهر والذلّ والاستسلام، من الطبيعي أن تنتهي إلى حربٍ طاحنة تتجاوز دائرة المعاناة فيها حدود الموتى، لتطولَ قائمة بلا نهاية، من ضحايا الاغتصاب والتعذيب، والأطفال المصابين بصدمات نفسية، والأرامل، والنازحين والمهجرين..

وإن كنّا نتحدث عن هرطقة سياسية ممنهجة من قبل نظام الأسد، فنكاد نجزم أن هذه المعاناة ناجمة عن حاكم منفصم ومغيّب، لا يعي الفرق بين الدولة والنظام، جرّ البلاد وببساطة مذهلة إلى الجحيم. على المقلب الآخر يظنّ كثير من المثقفين السوريين، وهنا يكمن جوهر المأساة، أنّ كارثة البلاد الأساسية تكمن في القوانين الاستثنائية أو تلك الاعتباطية والجائرة، وفي مقدمتها قانون الطوارئ، وكثيراً ما يخطئون في تحديد تاريخ بدء سريانه، يظنون أنه من بدع الانقلاب البعثي الشهير، وفي الحقيقة عرفت سوريا قانون الطوارئ منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي، ليُرفعَ مرات عدة خلال الفترات الديمقراطية القصيرة التي شهدتها البلاد. يظنون أنّ إلغاء قانون الطوارئ سيؤدي إلى "مصالحة وردية"، تسمح باستئناف الحياة السياسية الطبيعية وتعيد الديمقراطية، وأنّ مصالحة بهذا العمق هي وحدها الكفيلة بفتح أفق جديد ومبشّر.

جديرٌ ذكره في هذه الحالة أنّ القفز فوق "المشكلات الجوهرية" يجعل الكلام مهدوراً ولا يفيد أحداً، في حين تستورد "الطليعة المثقفة" أسس الديمقراطية بالمفرق، وتشتري الأفكار التقدمية بالتقسيط من دون فلسفة أصيلة تستند إليها. فكيف يكون لها القدرة على مواجهة نظام فاشيّ كهذا يتلاعب بمصائر السوريين كورقةٍ في مَهبّ العاصفة، ومسألة المواطنة والمساواة لم تنبع من إرادة الناس، ولم يُشتغل عليها كما يجب من أجل تعديل الشرع بما يلائمها، فبقيت إلى الآن حبراً على ورق في نصوص القوانين النائمة، وفي التكاذب اللفظي بين الناس.

ورغم المحاولات الجادّة إبان الموسم الديمقراطي الشهير في بداية عهد "الأسد الابن"، والذي عُرف بـ "ربيع دمشق"، فقد فشلت جميع الحركات المدنية والتقدمية في إدخال روح التحدي للمجتمع السوري، لأنها قفزت فوق المعطيات الاجتماعية والثقافية السائدة، بينما حاول كثير من "المثقفين النجوم" تقليد العالم المتمدن كما تفعل السعادين. فمن ثورة الديمقراطية وحكمها في مجتمعات باتت تخلو منها، إلى زوبعة الحريات المدنية في مجتمع عشائري فردي، بات متخلفاً وغير مهيّأ لصدمات الانفتاح الحضاري بعد عقود من الاختناق. وحتى التكنولوجيا التي حاولت أن تكون أصيلة في المجتمع السوري، غدت سبيلاً للتلفيق والميوعة ومهرباً من ثقل المهمة في مواجهة الواقع. وفي الحقيقة لم يتعدَّ فكر المثقفين وخطابهم سطح المسألة الذي هو القشور التي راكمتها سنوات الاستبداد المخابراتي الفاسد لنظام ربط نفسه بالحداثة، فأخذ أسوأ ما فيها، رافقته حرب أمنية وإعلامية شعواء، مستغلّة النواقص والثغرات والأخطاء في المجتمع السوري لإحداث جروح يصعب تطييبها. لذا على السوريين أن يَعُوا جيداً أن كلّ الثقافات شهدت حركات فكرية وأخلاقية، صراعية وتعاونية، خاصة وكونية، مغلقة ومفتوحة، طرحت في سياقها مبادئ وقيم المجتمع، فالخوف من المواجهة لا يعني إلقاء الحقوق في المزبلة، إذ سيكون لذلك ضريبة قاسية، وهي الوقوع في فخ تحويل "الإنسان السوري" إلى مجرد "شعار بائس" من دون أبعاد أو أرضيات. وعليه فإن المظاهر المجتمعية الشاذة في سوريا ليست وليدة المصادفة إنما هي مخرجات نظام قمعي استبدادي، في جعبته العديد من الأدوات والأفكار الشاذة لمحاربة السوريين، والتي لا بدّ ستظهر للعيان على صورة تلك المانشيتات "المثيرة والمستفزّة" المذكورة آنفاً.

تمت عمليات التغيير والتطوير والتحديث في مستويات قشرية وسطحية، بمعزل عن التعرض لأنساق الثقافة السورية المحلية، ما أدى إلى تفريغ كلّ المفاهيم من مضامينها الأصيلة

من البديهي التسليم بأنه ليس هناك ثمة ممارسة في الواقع إلاّ وثمة رؤية سياسية خفيّة تقبع خلفها، تؤسس لها وتفسرها. على سبيل المثال القهر الفادح الذي تتكشف عنه ظاهرة "الطوابير السورية" التي تنطوي على أبشع وأوضح أشكال العبودية، إنما تعكس أصل المشكلة، باعتبارها منصة انطلاق عظيمة لأنها تمثل "فضيحة مجلجلة" لحكمٍ سادت فيه مختلف صور التشوه والاستغلال وقهر الإنسان السوري. وحتى المعارضة "البائسة" يبدو أن علاقتها بالفكر السياسي يشبه إلى حدّ كبير علاقتها بموائد الطعام، حيث تحلو الموائد كلما كثرت وتنوعت الأطباق على المائدة. على هذا تمت عمليات التغيير والتطوير والتحديث في مستويات قشرية وسطحية، بمعزل عن التعرض لأنساق الثقافة السورية المحلية، ما أدى إلى تفريغ كلّ المفاهيم من مضامينها الأصيلة، فتبقّى الشكل وغاب الجوهر: الشعب بقي هو القبيلة، والفرد عبداً، والقانون شريعة الدين والسلطات المستبدة، مع استمرار هيمنة الأفكار المرتبطة بالرعية والطاعة والامتثال والتقاليد والحقيقة الواحدة التي لا مراء فيها. ويبقى لنا القول إنّ هناك عملية ممنهجة لتعزيز ظاهرة "الطأطأة والانكفاء" كي يُحكم على السوريين بالدوران في نفس الحلقة المفرغة، فتطفو على السطح، تلقائياً، مظاهر التفقير والتهميش والتجهيل والإذلال والقمع المنظم، في ظلّ غياب إرادة الحياة الجمعية، الواعية والمثقفة، التي تغلب على المجتمعات المسحوقة والمقهورة.