الضحيّة إذ تجلد ذاتها

2021.01.01 | 23:00 دمشق

2409750-6ksc6o5gfa0frc4qx53bnsjh4s48nax9jyj1qtd5gib.jpg
+A
حجم الخط
-A

قامت سرديّة الثورة السورية أساساً على مظلوميّة شعب مقهور من كلّ القوميات والأديان والطوائف والشرائح الاجتماعية، بوجه نظام حكم استبداديّ ضمّ في صفوفه منتفعين من جميع هذه الفئات المذكورة أعلاه، وإن كان الحاكم الأوحد ذا وجه طائفي محدّد مقيت. لكنّ العنف المنفلت من كل لجام، وسوء الظروف المحيطة، وقصور العوامل الذاتية، جعلت من هؤلاء الثائرين ضحايا مستدامين لأعدائهم ولأصدقائهم وحتى لأنفسهم.

كثيرة هي المؤشرات على جلد الذات في الحالة السورية الراهنة، وهذا شيء طبيعي عندما نقرأ ما وصلت إليه الثورة على أبواب عامها العاشر. الفشل في تحقيق أي نوعٍ من أنواع التنظيم، سياسياً، عسكرياً، مدنياً، وحتى إعلامياً وعلى مستوى الخطاب الوطني. مؤدّى ذلك بلا أدنى شكّ حالة من الخوف والتردد وانعدام الثقة في كل شيء، فالريبة من الآخرين هي في الوقت نفسه ريبة من الذات وتشكيك بها بشكلٍ لا واعٍ وغير مُدرَك.

أينما يمّم السوريون وجوههم وجدوا أمامهم حالات من فشل العمل الجماعي، على عكس حالات التفوق الفردي الكثيرة جداً، بل إنّهم يساهمون من حيث لا يدرون في أغلب الأحيان بهذا الفشل. فأيّ مشروع يظهر على الساحة يتعرّض لعمليّة نقد فوريّة بشكل متسرّع في الغالب الأعم، ويتمّ التعامل معه وفق كثير من الاعتبارات التي تخالف قواعد منهج "العلم والعدل" التي وضعها شيخ الإسلام ابن تيمّية للخوض في قضايا الشأن العام، حين قال: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلمٍ، كحال أهل البدع".

منذ الأشهر الأولى للثورة بدأت عمليات المغالطة المنطقية بالظهور، فكان يتمّ ربط بعض النتائج الحقيقية بأحداث وقعت فعلاً لكنها غير مرتبطة بها أساساً لدعم الخلاصة النهائية المراد الوصول إليها

 تَرْكُ منهج العلم والعدل هذا يوقع غالباً في لجّة بحر المغالطات المنطقيّة، التي تقوم على مبدأ انعدام وجود علاقة سببية بين الوقائع والنتائج، بحيث تكون الحجّة غير سليمة إذا كان المنطق المستخدم في الوصول إليها غير سليم رغم أنّ كل المعطيات أو الوقائع التي بنيت عليها كانت في الأساس صحيحة.

منذ الأشهر الأولى للثورة بدأت عمليات المغالطة المنطقية بالظهور، فكان يتمّ ربط بعض النتائج الحقيقية بأحداث وقعت فعلاً لكنها غير مرتبطة بها أساساً لدعم الخلاصة النهائية المراد الوصول إليها. كمثال على ذلك يمكن أن نستذكر مقولات راجت في أيام الثورة الأولى عن مشاركة قوات الحرس الثوري الإيراني قوات النظام في عمليات القتل والقمع لتبرير حمل السلاح ضدّه، وهذه الوقائع قد تكون وقعت حقيقة وعلى نطاق محدود وقد لا تكون، لكنّ إيرادها لتبيان وحشيّة النظام أمرٌ غير صحيح، لأنّ جيشه وقواته الأمنية كانت تعدّ وقتها أكثر من مليون فرد قادر على تحريكهم كيفما شاء، وتوحّشه بلا حدود ومعروفٌ منذ الثمانينات.

كان يتمّ تضخيم بعض المظاهر للبناء على ما ينتج عنها افتراضاً، وكان يتمّ تحريف بعض الوقائع لإثبات توصيفٍ معيّن أو نفي آخر. كان يتمّ في أغلب الأحوال نسبة المناقب لطرف من الأطراف أو لظاهرة من الظواهر، وبنفس الوقت يجري غضّ الطرف عن سلبياتها وكأنها صحيحٌ مُطلق، أو عن مثالبه وكأنّه قمّة الثورية ورمزها الوحيد. هكذا كان يتمّ صناعة المقدّس غير المتعالي دون استحقاق وجدارة. فعلى سبيل المثال، كانت الحماسة للكثرة الغالبة من أصوات الجمهور تدفع باتّجاه التسليح، ورغم أنّ بعض الأفراد وشرائح لا بأس بها من مثقفي الثوار السلميين عارضت هذا التوجّه، إلا أنّ المسار النهائي صبّ في مصلحة خيار الرد على عنف النظام بعنف مُضاد. وعندما كانت تظهر أصواتٌ معارضة لهذا الاتجاه، كان يتمّ محاصرتها وتحجيمها حتى وصل الأمرُ في النهاية إلى اتهامها بالتخاذل أو التبعية للنظام، أي بالخيانة بتعابير أكثر وضوحاً. لا يقدح هذا طبعاً بشرعية مقاومة الاستبداد بكل الطرق ومنها حمل السلاح بوجهه، ولا يقلل من تضحيات الضباط وصف الضباط والمجندين المنشقين، ولا من تضحيات المدنيين الذين تصدوا لهذا الوحش الكاسر وكسروا هيبته، لكنّ النقاش يدور حول آليات التفكير واتخاذ المواقف.

لقد كان التحالف بين أمراء الحرب ورجال الدين واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، بل في بعض المناطق كان أمير الحرب هو ذاته رجل الدين

بعدما سيطرت القوى العسكرية - بحكم امتلاكها السلاح - على مفاصل الحياة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بدأ التحوّل في مسار الفكر الثوري من التشاركيّة في صنع القرار والحرية في التعبير، إلى التقيّد بتوجّهات القائد زعيم الجماعة أو الفصيل العسكري، وغالباً من خلفه داعموه بالمال والسلاح. وكان مصير المخالفين من الثوّار المدنيين محصوراً بين البقاء والصمت أو الهجرة. لقد كان التحالف بين أمراء الحرب ورجال الدين واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، بل في بعض المناطق كان أمير الحرب هو ذاته رجل الدين، فلم يختلف الأمر في هذا الجانب عمّا كان عليه في جانب النظام.

لمحاربة من ينتقد هذ النهج أو يحاول تغييره، كان يتمّ اللجوء إلى أساليب ملتوية من تحريف الحقائق أو ربط الأحداث بافتراضات غير صحيحة أو شخصنة الردود لشيطنة الخصوم أو الاحتكام إلى سلطات لا مردّ لها أو تجييش المشاعر والتلاعب بالجمهور. عندما طرح بعضُ أبناء حوران على سبيل المثال مبادرة لإدارة مناطقهم المحررة محلياً، تمّ اتهامهم من تحالف بعض قوى الأمر الواقع وبعض أصحاب المصالح وبعض التيارات الدينية بالسعي إلى الانفصال وتقسيم سوريا. لا يهمّ من أين استمدّ هؤلاء حجّتهم هذه، ولا يهمّ أنها افتراءٌ ومحضُ كذب، وليس من الضروري إيجاد البرهان على هذا التخوين، المهمّ أنّ النتيجة المرغوبة حصلت، فباتت الإشارة إلى هذه المبادرة وأصحابها مقترنة بالخيانة والسعي إلى التقسيم والانفصال. ليس مهمّاً أنّ أصحاب المبادرة قد أعلنوا بكلّ وضوح أهدافهم ومبادئهم التي تؤكّد على تمسّكهم بوحدة سوريا وسعيهم للحفاظ عليها، فالنوايا المبيّتة التي استطاع المهاجمون اكتشافها بعد ّأن شقوا صدور أصحابها، هي الحقائق لا غير.

كذلك كان الأمرُ عند مناقشة الطروحات التي قدّمتها الدول المتحكّمة بالملف السوري بشأن فتح معبر نصيب وبقائه بيد المعارضة، والذي عُرض على قادة الفصائل المسلّحة جميعاً في إحدى الدول الشقية، وقد شاركت وقتها بالنقاش بشكل علنيّ قوى مدنية كثيرة إلى جانب قادة القوى العسكرية، وقدّم كاتب هذه السطور استشارة قانونية حول شروط هذا الطرح ليكون بمصلحة الثورة، قام بإعطائها أحد أكبر خبراء القانون الدولي في كندا، بالتعاون مع أحد أبناء المحافظة المقيمين هناك. لكن؛ ولأنّ المتحكمين بالمعبر وبالطرق المؤدية إليه وبالمنطقة كلها كانوا لا يستطيعون رؤية ما هو أبعد من أنوفهم، ولأنّ العزّة بالإثم أخذتهم وأعمت بصائرهم، لم يقبلوا التشارك في اتخاذ القرار، بل ماطلوا في الرد على المقترح، ومنعوا تشكيل قيادة عسكرية موحدة لإدارة المنطقة، ومنعوا قيام المدنيين بالإشراف على إدارتها، بل وأكثر من ذلك، بدأ كل فريق منهم يهاجم الفريق الآخر ناسباً له تسليم الجنوب السوري، متناسين في الوقت ذاته مسؤوليتهم عمّا آلت إليه أوضاعه وأوضاع أهله، بعد أن تمّ تسليمه للنظام والروس من قبلهم جميعاً بدون استثناء، ثمّ كان أن فرّ هؤلاء من ساحات القتال تاركين المدنيين العزّل لمواجهة مصيرهم وحدهم أمام غيلان النظام المتوحّشة.

هكذا كانت الحرب البينيّة تتدرّج من نقد صاحب الفكرة دون النظر إلى فكرته، لتصل إلى افتراض محتويات لا وجود لها في الفكرة أصلاً، والبناء عليها للخلوص إلى النتيجة المحددة سلفاً، أي رفض الفكرة من أساسها، لأنّ في ذلك انتقاص من مصالح وميزات ومكاسب من حاربها. لم يعلم هؤلاء بأنهم كانوا يطلقون النار على أنفسهم عندما كانوا يحاربون أبناء ثورتهم المختلفين معهم فكرياً أو سياسياً أو عَقَديّاً، ولم يدرك هؤلاء حتى الآن أنّهم كانوا من أهمّ أسباب التشرذم والتشتت والضياع الذي وصلنا إليه في الوقت الراهن. إنّها الضحيّة إذ تتحوّل إلى جلاّدٍ لغيرها من الضحايا، إنّها الضحيّة إذ تُمعنُ في جلد ذاتها، فهل حان وقت العمل للخلاص من هذا المرض العُضال؟

كلمات مفتاحية