الصين فزّاعةٌ آفلة أم تنّين

2022.09.08 | 06:12 دمشق

alsyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

أظهر التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وإفريقيا عام 2021 أن قيمة التجارة المتبادلة بلغت 187 مليار دولار خلال العام الماضي، لتحافظ الصين بذلك على وضعها كأفضل شريك تجاري لإفريقيا.

ووفقاً لشريحة من المحللين الاقتصاديين، سيقفز الاقتصاد الصيني إلى صدارة الاقتصادات العالمية خلال السنوات العشر القادمة، رغم أن جائحة كورونا أدت لتراجع في معدل النموّ ليصل إلى 6% فقط عام 2019 بعد أن كان 15% عام 2007، طبعا هذا إن كنا نميل إلى تصديق أرقام وإحصاءات الأنظمة الشمولية. رغم أن هذا الرقم ما يزال ضعف معدّل نموّ الاقتصاد الأميركي المتصدّر حتى اللحظة، إلا أنه يشير إلى ما يسمى بالنمو المتباطئ للاقتصاد، وهي بداية معروفة تسبق أزمات تالية.

استطاع الاقتصاد الصيني أن يكون الأقل تأثراً بتبعات كوفيد19، وذلك وفقاً للدراسة التي نشرها المعهد الأوربي للإحصاء "يوروستات"، في الثامن من شباط/فبراير 2021 التي تؤكد تنحّي الاقتصاد الأميركي عن كونه الشريك الأول للاتحاد الأوربي، لصالح نظيره الصيني الذي بلغت حجم تجارته مع الأوروبيين 586 مليار دولار، مقابل 555 مليار دولار للاقتصاد الأميركي.

يبقى كل ما تقدم تحليلات وتوقعات حتى لو كانت مبنية على معطيات وأرقام مجردة، فالتاريخ يحفل بعدد لا حصر له من خيبة التحليلات الاستباقية. ليس أدلّ على ذلك من خطة الحزب الشيوعي الصيني "القفزة العظيمة للأمام"، والتي انتهت إلى انتكاسة عظيمة للوراء تمثلت بمجاعة امتدت خلال سنوات 1958-1961، لتشهد الصين لأول مرة في تاريخها معدل نموٍ سلبي. الخطة خلّفت أكثر من 18 مليون ضحية ماتوا جوعاً أو قتلاً لتنفيذ سياسات (القفزة) قسراً. اعترفت الصين حينها بموت 14.6 مليون بحسب صحيفة "ين مان" People الصينية.

انتشر الزيّ الأثيني في معظم ممالك العالم القديم، واستمرّ ذلك طيلة حقبة سيادة الإغريق. سبقَ زيّ الإغريق انتشار فلسفتهم وأسمائهم وآلهتهم. قبلهم كانت فينيقيا وبعدهم جاءت روما. في العصر الحديث سادت حضارة الغرب ممثلاً بداية بأوروبا ثم تالياً بأميركا. سادت لاعتبارات عديدة، قد يكون أهمها أنها غزت العالم حقيقةً لا مجازاً، بآدابها وموسيقاها، وصولاً إلى الأزياء وأسلوب الحياة واللغة، كل ذلك مدعوماً بقوة إعلامية هائلة.

لم تنتشر الصين في العقود الأخيرة عالمياً، إلا كسلع زراعية أو صناعية، وسيادة العالم إن صح التعبير، لم تكن يوماً من خلال الاقتصاد وحده، على أهميته. والأهم أنه لا يمكن لسيد أن يمتد بسلطاته للخارج البعيد، قبل تمكنه من جواره. الصين من هذه الناحية نموذج سيئ للسيد الطامح، فجميع جيرانها إما خصمٌ تاريخي (اليابان، فيتنام وكوريا) أو اقتصادي (تايوان، ماليزيا، تايلاند وإندونيسيا) أو سياسي (روسيا، الهند وأستراليا)

لم تنتشر الصين في العقود الأخيرة عالمياً، إلا كسلع زراعية أو صناعية، وسيادة العالم إن صح التعبير، لم تكن يوماً من خلال الاقتصاد وحده، على أهميته. والأهم أنه لا يمكن لسيد أن يمتد بسلطاته للخارج البعيد، قبل تمكنه من جواره. الصين من هذه الناحية نموذج سيء للسيد الطامح، فجميع جيرانها إما خصمٌ تاريخي (اليابان، فيتنام وكوريا) أو اقتصادي (تايوان، ماليزيا، تايلاند وإندونيسيا) أو سياسي (روسيا، الهند وأستراليا)، ومع الموقف الأميركي الجديد، فأينما حاولت بكين التمدد، تايوان مثالاً، فإنها تجد ردود فعل قوية من دول تتحول يوماً إثر آخر إلى خصوم بل وأعداء للصين.

تشهد العلاقات الروسية الصينية في الفترة الراهنة تحالفاً موضوعياً، سببه حاجة روسيا لباب موارب، تكسر من خلاله حصار العالم لها بأمر من السيد الأميركي، لكن الصين لم توارب بابها بدافع الجيرة ووحدة العدو، بل على العكس، هي تمعن في اعتبار الأمر صيداً يجب اقتناصه، ولن ينسى الروس ذلك حتماً سواء رجحت كفتهم في صراعهم مع الناتو، أو عادوا بخفي بوتين، كما هو متوَقَع.

يجمع خبراء الاقتصاد على أن قوة أي اقتصاد رهن بقوة سوقه الداخلية ودورته الوطنية، والصينيون للغرابة غير مستهلكين، رغم كتلتهم المليارية، ولعله من الطريف القول إن حجم التبادل التجاري الأوروبي الصيني يفوق حجم التبادل الصيني الصيني. خاصة بسبب سياسة الإنجاب التي فرضتها الصين على مواطنيها عام 1980 حيث منعت إنجاب أكثر من ولد واحد، لتعود وتسمح بطفلين عام 2013، وأخيراً أجازت إنجاب ثلاثة، بعد دراسات قدمت للحكومة المركزية تؤكد أن بلدهم دخلت مرحلة الشيخوخة، وهذا من أخطر المؤشرات.

نستطيع القول إن أعلى مساهمة للمواطن الصيني، في اقتصاد بلاده، من حيث كونه مستهلكا، هي في سوق العقار، لكن يبدو أنّ الصين قد تخسر هؤلاء الزبائن المحليين، حيث تشهد منذ عدة شهور أزمةً كبرى. بدأت بوادرها مع تخلف المطوّرين العقاريين الصينيين عن تسليم الوحدات السكنية للمستحقين. من جرّاء هذا التخلف في التسليم، امتنع الزبائن عن سداد الأقساط الشهرية للبنوك المقرضة، وهو أمر يؤكد خبراء في الاقتصاد خطورته البالغة، والتي قد تؤدي إلى أزمة على الصعيد الاقتصادي العام. لا يبدو أن هناك أية مبالغة في تحذيرات الخبراء، فحسب شركة الخدمات المالية اليابانية نومورا "سلّمَ المطورون العقاريون الصينيون 40% فقط من المنازل المباعة مسبقاً منذ عام 2013-2021".

ما يزال الإضراب عن سداد الأقساط مستمراً شاملاً 320 مشروع سكنياً عملاقاً في مئة مدينة صينية، وبحسب تقديرات مجموعة نيوزيلاندا/أستراليا المحدودة ANZ فإن المقاطعة الحالية لسداد قروض الرهن العقاري، ستتسبب بتأخر استحقاق تسلم البنوك الصينية 222 مليار دولار. ولعل أزمة شركة التطوير العقاري الصينية الأشهر "إيفرغراند" بديونها البالغة ثلاثمئة مليار دولار، والمتعثرة في سدادها، يشي بما هو قادم. بل ويذكر بأزمة الرهن العقاري عام 2008 في أميركا والتي انعكست أزمة عالمية.

باستثناء مبلغ 40 مليار دولار خصصته الحكومة لمساعدة الشركات العقارية، لم تبادر الحكومة المركزية الصينية لأي إجراء ينقذ قطاعاً يعتبر من أكبر قطاعات الاقتصاد الصيني. طبعاً المبلغ المخصص لن ينقذ شيئاً بحسب الخبراء. مثل هذه الأزمة وسواها من أزمات الاقتصاد الصيني في سوقه المحلية، تعطي إشارة قوية عن سبب تسمية الاقتصاد الصيني باقتصاد الأظافر الطويلة النابتة من أصابع قصيرة/اقتصاد الصادرات، وهو الواقع الذي يجعل الصين واقتصادها رهناً بمدى استقرار أو توتر علاقاتها مع أسواقها الكبرى في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، ثم روسيا حديثاً.

أي اهتزاز بسيط بتلك العلاقات كفيل بتقليم أظافر المارد النصف غافي، والذي يبدو أن زعماءه يدركون أن نصف صحوة، خير من يقظة كاملة قد تزعج زبائن الخارج، مما يؤدي لمآلات قد تُسقط الأظافر الطويلة، وربما يجد العالم نفسه أمام تنين أليف، ضخّمته أميركا منذ السبعينات عبر فتح أسواقها، ليغدو فزاعةً أو بعبعاً يُبقي أوروبا مذعورةً خلف الظهر الأميركي.

اليوم لأميركا موقف معاكس تماماً، فكلما عثرت على جرح صيني فإنها تُثخن فيه، وتستثمر في محاولة تعميقه. إضافة إلى دفعها الصين إلى ما يشبه سباق التسلح، خصوصاً لجهة تعزيز منظومتها النووية، الأمر الذي تراهن أميركا عليه، فهو ذات الفخ الذي أسقط الاتحاد السوفييتي. في السنوات الأخيرة انتقلت الصين بالفعل من قاعدة "قوة الردع النقدي" الشهيرة إلى الردع النووي.

الصين محكومة بنظام شمولي يصدر الأوامر من أعلى، وإن كانت ظروف دولية معينة قد واتت اقتصادها على النهوض في الفترة الماضية، فإن وجود هكذا نوع من الأنظمة، لا يمكن إطلاقاً (يجوز الإطلاق في هكذا حالة) أن يفسح المجال لاستمرار التطور الطبيعي، لا في حقل الاقتصاد وحسب بل في كافة الحقول

الأمر الأخير ولكنه الحاسم كما أرى، فإن الصين محكومة بنظام شمولي يصدر الأوامر من أعلى، وإن كانت ظروف دولية معينة قد واتت اقتصادها على النهوض في الفترة الماضية، فإن وجود هكذا نوع من الأنظمة، لا يمكن إطلاقاً (يجوز الإطلاق في هكذا حالة) أن يفسح المجال لاستمرار التطور الطبيعي، لا في حقل الاقتصاد وحسب بل في كافة الحقول، بما فيها حقول السياسة والمجتمع وحقوق الإنسان أيضاً، وما انعدام الشفافية حول انتشار كوفيد19 إلا نتيجة لوجود هكذا نظام. واحدة من عشرات جرائمه أنه يحجب الحقائق والمعلومات.

في بحثهما التحليلي المهم والمحكم المنشور في مجلة "فورين أفيرز" نهاية عام 2021، يصل الباحثان الأميركيان مايكل بكلي وهال براندز، بعد عرضهما للعوامل التي ساعدت الصين في نهضتها الاقتصادية العملاقة، يصلان إلى نتيجة مدعمة بمجموعة هائلة من الحقائق، مفادها أن "الصين قوة أتمَّت صعودها، لا قوة صاعدة، فقد اكتسبت إمكانيات جيوسياسية هائلة، لكن أجمل أيامها ولَّت بالفعل".