الصورة الشعرية.. تزيين الرياح

2020.02.18 | 23:08 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

يترنم عشاقُ المتنبي بقصيدته اللامية الشهيرة "بَقائي شاءَ -لَيسَ هُمُ- ارْتِحالا"، ويتوقفون خصوصاً عند قوله:

على قَلَقٍ كأن الريح تحتي

أوجهُها يميـنـــــــــاً أو شمــــالا

وهم على حق في ذلك، فهذه صورة شعرية مذهلة بالفعل، ولكن ما رأيكم -دام فضلكم- بما أبدعه الأخوان الرحباني، وغنته فيروز لحبيبها حين تقول: بكرة إنْتَ وجاية راحْ زَيّن الريحْ؟

للرياح، عند الرحابنة، شجون كثيرة. ففي قصيدة "رجعتَ في المساء" نعثر على صورة نادرة حين تقول "والريح تبكي في الساحة الحزينة". وفي أغنية "دقوا المهابيج" نجد الريح السودا تهيج، ونسيمَ الليل يلعب دور المراسل فهو "ياخد عَتَب ويجيب". وفي ذات مرة كتب الرحبانيان موالاً "سبعاوياً" يبدأ بقولهما: يا مركبَ الريح خلي البحر وانزلْ عَ بَرْ.. وهذا يوحي للقارئ بأن الريح الرحبانية تبكي، ويمكن تزيينها، ولها مركب يسير في عرض البحر.

في مسرحية "ميس الريم" يغني إيلي شويري مخاطباً فيروز التي تمثل دور "شهيدة": تبقى تجي من الريح وشعرها مدري. وأما قصيدة "بكوخنا" فتأتي فيها عبارة تساهم فيها الرياح باستكمال وصف المشهد: والريح عم يصفر فوق منو صفير، وتخزّق بهالليل منجيرة قصب.

علاقة الريح بالشَعر الطائر (المدري) قوية جداً في عالم الصورة الشعرية بشكل عام، والصورة الرحبانية بشكل خاص، ففي أغنية "وطا الدوار" تقول فيروز في وصف الفتى والفتاة العاشقين: وخلف السياج اللي إلو داير، من شوك الحقالة، يضلوا يغنوا وشعرهم طاير، وحالتُن حالة. وهذه الصورة الأخيرة ليست خارقة، لأنها تقدم وصفاً منطقياً معتاداً، ولكنَّ لدى الرحبانيين، من جهة أخرى، صوراً تتقدم فيها الكائنات الأخرى غير البشرية لتشارك في صنع الأحداث، كما في قول وديع الصافي عند مطلع سكتش "سهرة حب":

تبقى بلدنا تضحك بهاك المدى ونبقى (أنا والليل) نحكي ع الهدا.

الشيء المبتكر هنا أن الليل يحكي مع البطل الراوي، بهدوء، وأما الشطر الثاني ففيه شيء خارق هو تواطؤ الليل مع وديع، حتى ليعرض عليه فكرة أن يقوم بفعل التعتيم للحماية من أعين الآخرين:

يقلي أنا راح عَتّمْ الدنيا عليك

تـَ لعندهم توصل وما يشوفك حدا

(تـَ) التعليل التي يستخدمها اللبنانيون في مكان (لكي) الفصيحة، أعجبت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حينما جاء في سنة 1961 إلى لبنان لإحداث اللقاء التاريخي مع الفريق الرحباني. بالمناسبة: كلمة "تاريخي" تقال عن لقاء كهذا، وليس عن خطابات حسن نصر الله التي يدعو فيها لولي الزمان بالنصر، وخطابات بشار الأسد التي يهدد فيها الشعب السوري بالإبادة.

كان عبد الوهاب على ما يبدو متوجساً من كون اللهجة اللبنانية غير مطواعة في صياغة الشعر الغنائي، ولكنه عندما قرأ القصيدة التي كتبها الأخوان الرحباني "سهار تـَ  يحرز المشوار" غَيَّرَ رأيه، وأبدى إعجابه بالتاء، وقال ما معناه: الإخوة اللبنانيين بيستخدموا تـَ بدلاً من كلمة مصرية طويلة هي: على شان، وده شيء جميل.

الشعراء القدامى كانوا قليلي الاهتمام بالصورة الشعرية، وهذا ربما ينسجم مع أغراض الشعر في ذلك الزمان كالفخر والهجاء والمديح والرثاء، والصورة عندهم تأتي في المطالع حيث كانوا يلزمون أنفسهم بالوقوف على أطلال الحبيبة، والتغزل بها، ولعل عنترة بن شداد قد بَزّ زملاءه جميعاً عندما ود أن يقبل السيوف في المعركة لأن لمعانها أعاده إلى صورة ثغر عبلة عندما تتبسم، ومثله امرؤ القيس الذي قال شطراً من بيت شعر وصف فيه الحصان.. إنه، بزعمي، شطرٌ مُعْجِزٌ لعلماء الفيزياء والبصريات والمونتاج السينمائي، يستحيل أن يوجدوا له معادلاً بصرياً حقيقياً هو: مكر مفر مقبل مدبر معاً!

ولكن، تكاد "الصورة الشعرية" أن تكون المعيار النقدي الرئيس للشعر الحديث، وهذا ما تجده متجلياً بوضوح في الشعر المحكي الذي انتقاه الأخوان الرحباني ليلحناه وتغنيه فيروز، فمن ميشال طراد استعارا قصائد مطرزة بالصور تطريزاً، كما قصيدة "بكوخنا" حيث يقول مخاطباً الطفل: وقفوا عَ شباكك يدقوا العصافير، بجوانحُن المتشرنين (أي اللذين جمدهما برد تشرين). ويقول: ورفيقك البلبل شو مشتاق لك كتير، مخبي لك بعبو شي مية سوسنة.

لا تقل الصور التي تحفل بها قصيدة ميشيل طراد الأخرى "جلنار" جمالاً وإثارة عن الصور التي تتحرك في فضاءات القصائد الأخرى. فنحن نمر بقوله "راعي بكي" مرور العابرين، لأن الراعي إنسان، وفي لحظة ما قد يبكي، عادي، ولكن المدهش هو التالي:

منجيرتو متلو، بكيت تـَ يتسلى

شو قولكن عَ السكت قالتلو؟

وهذا لا يقل جمالاً عن قوله في القصيدة نفسها:

صرخات عم بتموج في الوادي

معنزق عليها ضباب.

"العنزقة" تعني الالتفاف، هناك صرخات تتحرك كموج البحر في الوادي، والضاب ملتف حولها!!