الصفوية والعثمانية مجددا بأحلام أميركية وروسية

2020.03.04 | 23:03 دمشق

thumbs_b_c_95480a3a9ddbb52f0616106377bdf4c0.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان السلطان سليم الأول، صاحب الرؤية الاستراتيجية العثمانية على قناعة بأنه لا يمكن تحقيق توسيع حدود السلطنة، من دون الدخول إلى بلاد الشام. من الشام كان يمكن للسلطنة السيطرة على معابر ومضائق كثيرة تسمح لها بربط العالم بعضه بالبعض الآخر. خاض السلطان سليم معركة مرج دابق وسيطر على حلب "درّة التاج العثماني" ومنها انطلق إلى الرحب الأوسع الممهد لوصول السلطة العثمانية إلى السيطرة على أصقاع واسعة من العالم. خطوته الاستراتيجية التي كانت مدار رصد من قبل خصوم السلطنة، دفعتهم إلى التفكير بطريقة مضادة في حينها عبر الرهان على خيار استراتيجي مضاد، تجلى بدعم الصفويين في إقامة دولتهم في بلاد فارس، على أساس المذهب الشيعي الاثني عشري لمواجهة المدّ السنّي العثماني.

وكانت غاية الصفويين، نحو الغرب والشرق، وتحديداً باتجاه خراسان وأذربيجان وأفغانستان والعراق وديار بكر لمواجهة التوسع العثماني على أساس صراع مذهبي هذه المرة. الأحداث تتشابه حالياً في الصراع الدائر في سوريا، والذي على أساسه اختار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الدخول إلى سوريا، لحماية دولته أولاً، وتوسيع نفوذها ودورها في المنطقة. في ظرف دولي عصيب ومعقد، لا يرتكز فقط الى حروب النفط والغاز والمصالح الاقتصادية، إنما في صلبه نموذج جديد من الحروب في العصر الحديث وهي حرب الديمغرافيا. هذه الحرب التي تبدأ في الصين مع الإيغور وتمتد إلى الهند وميانمار وصولاً إلى سوريا وفلسطين والعراق، وتركيا لن تكون بمنأى عنها في إطار الصراع السياسي الذي ينفجر بوجهها مع كل حلفائها وخصومها.

لم يكن اتهام تركيا برعاية التنظيمات الإرهابية كداعش والنصرة، مجرد تفصيل أو أمر عبثي. كان لذلك أبعاد تؤسس ليس فقط إلى الصراع على سوريا الذي أفضى إلى تهجيرها من سكانها، بل كان يستهدف تركيا بشكل مباشر، وبشرح مبسط لذلك، فكما تمّت شيطنة المعارضة السورية ومختلف المدن التي احتضنتها وتم وصفها بالحاضنة للإرهاب والتنظيمات الإرهابية، أريد لتركيا بما تمثله من نموذج للإسلام السياسي أن يكون عرضة للاستهداف المستقبلي، وهو ما بدأ بالتحقق في السنوات الأخيرة.

تخلّي الولايات المتحدة الأميركية في ولاية باراك أوباما عن دعم تركيا ومساندتها، مقابل الجنوح الأميركي إلى إيران وعقد اتفاق معها، بالإضافة إلى تخلّي أوباما عن العرب ونبذه لهم، أوضح المعالم التي يتجه إليها العالم، ليأتي دونالد ترمب بلا جديد أو مختلف عن أوباما إنما بنفس التوجه الاستراتيجي مع فارق في الأداء والسلوك والتعبير. الإطار العام لهذه الاستراتيجية وضع تركيا أمام تحدّ للحفاظ على الذات، والدور والوجود والكيان. هذا الكيان الذي تهدد جدياً عند محاولة الانقلاب التي حصلت في العام 2016.  تخلى الأوروبيون عن تركيا، كما الأميركيون، فوقعت فيما يشبه العزلة أو الحصار الخانق، اقتصادياً وسياسياً وبأمواج هائلة من اللاجئين، في مقابل دعم أميركي للأكراد ومشروعهم الذي يستهدف وحدة الأراضي التركية ويؤسس إلى صراع داخلي تركي ستكون له انعكاسات خطيرة في السنوات المقبلة على مستقبل تركيا الموحدة بشكلها الحالي.

وجدت أنقرة نفسها مضطرة للجوء إلى الحضن الروسي، ودخلت في اتفاقيتي أستانا وسوتشي اللتين لم يتأخر الروس عن الانقلاب عليهما، ولا يكون ذلك الانقلاب الأول الذي تتعرض له أنقرة من قبل حلفائها. وصولاً إلى الضربة القاسية التي تلقتها القوات التركية الأسبوع الفائت في شمال سوريا، هذه الضربة لم تكن لتحصل لو حصلت تركيا على دعم أميركي أو غطاء جوي في المعركة التي تسعى إليها، ولم تكن لتحصل لولا لم يكن هناك شبه تفاهم روسي أميركي على تحجيم الدور التركي بتوجيه الضربات القاسية له.

سارعت تركيا إلى الردّ على ما تعرضت له باستهداف قوات النظام وحزب الله، ما سيؤسس مجدداً إلى تجدد الصراع المذهبي السني الشيعي أو السني العلوي، مع حملة واسعة من الهجومات التي ستتعرض لها تركيا مستقبلاً في أنها ترعى الإرهاب "السني" لمواجهة الشيعة والعلويين، بحيث ستوضع في خانة المواجهة مع الأكراد، ومع العلويين والشيعة، إلى جانب مواجهتها مع الأوروبيين في ظل تنامي اليمين الأوروبي المسيحي الذي يكن لها العداء والخصومة، ولا يترك فرصة إلا ويلجأ فيها إلى استهدافها وإضعافها، ليكتمل طوق الخناق بالموقف العربي العدائي تجاهها.

ستكون تركيا مستقبلاً أمام خيارات صعبة على المدى الاستراتيجي البعيد، هي غير قادرة على الثقة بالأميركيين أو الأوروبيين، على خصومة مع العرب، ولا يمكن لها أن تثق بروسيا التي انقلبت عليها أكثر من مرّة، خاصة أن موسكو لا تريد مشاركتها من قبل أحد بالسيطرة على سوريا، وستستمر في محاولات إضعاف تركيا وتحجيمها هناك، بالاستناد إلى النزعات الأقلوية التي تتحكم بمفاصل القرار في سوريا، بين الشيعة والعلويين والمسيحيين والأكراد، وسط إصرار روسي على إخراج تركيا من سوريا، بينما الدخول الروسي إلى سوريا جاء تحت شعار الحرب المقدسة التي أعلنتها الكنيسة الروسية، وهذا لا يختلف أبداً عن المسوغات الدينية والمذهبية التي قدمتها إيران لخوض حربها مع حزب الله ضد الثورة السورية بذريعة حماية المقامات والمراقد الدينية ضد الإرهاب والتفكير، وهي نفسها السمة المقدسة التي تضفيها إسرائيل على حروبها، والتي وصلت إلى الإعلان عن قومية ويهودية الدولة.

 

الخيار الأساسي أمام أنقرة هو الاستمرار في معركتها العسكرية، في شمال سوريا لأجل الردّ على الضربة التي تعرضت لها، ولعدم الاستسلام، لكن ذلك أيضاً سينعكس على تركيا مستقبلاً في ظل الاستهداف الدائم والمستمر لها، والذي قد يتطور إلى أشكال مختلفة فيما بعد من خلال تزكية الصراع القومي التركي الكردي والسني العلوي، لأن الهدف الأبعد هو ضرب تركيا من الداخل، على قاعدة تصغير الكيانات وتأثيراتها في إطار الحرب الديمغوغرافية، التي عكستها سوريا بتجلّ واضح.