الصفقة الكبرى: قمع الثورات وامتهان الشعوب

2020.01.29 | 23:01 دمشق

tramb.jpg
+A
حجم الخط
-A

لن يجد ترمب وقتاً أفضل من هذا لكي يهدي الإسرائيليين صفقةً، بنى كل ركائزها على رؤيتهم، واقترحها على أعدائهم، الهدف منها؛ هو وضع هؤلاء في الزاوية! وإبقاؤهم بعيداً عن ممارسة أي فعل لمدة أربع سنوات، ستعمل خلالها دولة الاحتلال -كما فعلت خلال العقود السابقة -بدأب على تكريس بنود الصفقة، حتى يصبح الأمر واقع حال مبرمٍ لا قيمة فيه لرفض أو موافقة الفلسطينيين!

اللافت فيما أعلنه الرئيس الذي يخضع حالياً لاستجواب ومحاكمة في مجلس الشيوخ أن الفائض عن الرؤية الإسرائيلية في الصفقة كان دعوته العرب إلى إصلاح الخطأ التاريخي الذي ارتكبوه سنة 1948، حينما حاربوا إسرائيل دفاعاً عن الفلسطينيين، الذين تحولوا بعد ذلك إلى شعب مسلوب الأرض!

ولعل ترمب لم يكن ليجرؤ على فعل ما لم يفعله الرؤساء الأمريكيون السابقون من خطوات إسرائيلية المحتوى والمؤدى (الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ومنح الجولان لها، وهذه الصفقة الوقحة أيضاً) لو لم يكن مطمئناً إلى أن من يخاطبهم باسم العرب ليسوا سوى أولئك الذين يقودون الخط المنحدر في الإرادة العربية، أي هؤلاء الحكام الذين استباحوا بلدانهم وشعوبهم طيلة العقود السابقة قمعاً وإرهاباً! وحينما ثارت الشعوب ضدهم كشفوا عن وجوههم بوصفهم خدماً لإسرائيل، يحمون حدودها، ويقمعون الثائرين الذين يرفضون وجودها كما لم يرفضه أباؤهم وأجدادهم!

يخاطب ترمب عرب الثورات المضادة، مطالباً إياهم بالمزيد في سبيل أن ينتهي صداع القضية الفلسطينية، وهؤلاء هم أنفسهم من سيمولون حلوله لتحويل الدولة الفلسطينية المسخ إلى بؤرة اقتصادية ملحقة بالكيان الإسرائيلي ذاته!

وفي الآن ذاته يلوح ترمب في وقفته البارعة بعصا قائد الأوركسترا التي يمكن لها أن تفسح المجال واسعاً لعدو آخر للعرب عموماً ولدول الخليح منهم على وجه الخصوص، فقد قام بقتل سليماني بوصفه إرهابياً أول، ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن ينشغل بجانب آخر من المشهد، فتشتعل المنطقة من جديد بسيطرة الإيرانيين على الإيقاع، بعد أن ترك لهم الزمن الكافي لكي يعيدوا ترتيب الأوضاع في أربعة بلدان عربية هي سوريا والعراق ولبنان واليمن!

لو أتيح للشعوب العربية أن تكون صاحبة قرارها منذ البداية لما تراكمت الأخطاء التاريخية  في1967 وفي 1982 وصولاً إلى مفاوضات أوسلو

ربط ترمب بين الصفقة والخطأ العربي التاريخي، يمكن للمتابع الفطن أن يقرأه من زاوية لا يريدها ترمب نفسه، فالنكبة في 1948 كانت خطأ فعلاً ولكن ليس في مواجهة إسرائيل بل في الرضوخ والاستسلام للإرادة الدولية التي تريد لها أن تبقى! ولو أتيح للشعوب العربية أن تكون صاحبة قرارها منذ البداية لما تراكمت الأخطاء التاريخية  في1967 وفي 1982 وصولاً إلى مفاوضات أوسلو التي أوصلت المسألة إلى واقع الأفق المسدود الراهن؟

ترمب في الحقيقة يريد ومن ورائه الأنظمة العربية التي تعمل بإمرته، أن يزين في عيون الفلسطينيين خطوة عرجاء ستصبح لاحقاً خطأً تاريخياً جديداً يؤدي وبشكل نهائي إلى خسف الآمال بتحقق الأحلام الوطنية الفلسطينية كلها، عبر صفقة تنسف بجوهرها كل ما توافق العالم عليه سابقاً إن كان عبر قرارات الشرعية الدولية أو بنود أوسلو!

كم يظن أننا كشعوب عربية مهزومون ولا نقوى على مواجهته هو ومن يمضي في موكبه ومن يعمل لخدمته؟!

هل كان ليصل إلى هذه النتيجة لو لم نكن كشعوب عربية ثائرة ضحايا للحكام الفاسدين الذين يقومون بقتل شعوبهم وإهانتها ومحو تأثيرها على قراراتهم؟! وهل كان ليجد المجال مفتوحاً أمامه ليفعل كل هذا لو لم يكن مطمئناً إلى أن من سيطر على إرادة المقاومين ونصب نفسه زعيماً لهم وقائداً لتيارهم عبر الجعجعة والصراخ وقتل الآخرين وقمعهم بحجة المقاومة والممانعة ليس سوى طبلٍ أجوف؟!

وهل كان ترمب يمضي هو ومستشاروه بطرح مقترحه لو لم يكن مطمئناً إلى أن ما يفعله الإيرانيون والروس في المنطقة إن كان في سوريا أو في غيرها من بلدان الربيع العربي ليس سوى الخطوة المقابلة والمكملة لخطوات إسرائيل في مسار سيطرتها على فلسطين التاريخية ودول طوقها!

كم نبدو في ظنه ضعفاء وقابلين للاستباحة وهو يلقي علينا تفاصيل صفقته؟! وكم يظن هؤلاء الحكام القتلة الذين قمعوا شعوبهم أن المناخ بات مناسباً لكي يعقدوا معه صفقات تأبدهم على كراسيهم؟!

ولكننا في الحقيقة ورغم كل مآسينا وخساراتنا لسنا كما يتصورنا ترمب وكل هؤلاء الذين يعملون لتحقيق خطته؛ لقد صنع الفلسطينيون انتفاضتين ما كان لهما أن تنتهيا لولا تآمر الإرادة العربية عليهما!

وها هنا شعوب ثارت بأكملها لتصنع حريتها، وما كان لها أن تفشل في ذلك لولا دفع الدول العربية والإقليمية لها عبر استزلام بعض واجهاتها إلى التسلح والأسلمة وبيع القرار الوطني المستقل مقابل "قبضة من نحاس"!

على الشعوب العربية وقواها الحرة من الأجيال الجديدة التي صنعت الربيع العربي أن تصلح خطأها التاريخي، فتدرك أن حريتها لا تنفصل عن حرية الفلسطينيين، والعكس صحيح!

نيل الفلسطينيين لحقوقهم كهدف تاريخي، ليس بعيداً عن نيل إخوتهم العرب لحرياتهم، وبناء الدول الوطنية التي تحترم مواطنيها، وتصنع تاريخها من خلال حفظ كراماتهم. ودون ذلك سنبقى رهائن صفقة تأتي وأخرى تمضي، بينما نخسر كل شيء هنا وهناك..