الصراع في سوريا حرب العقائد والجغرافيا (1 )

2020.10.23 | 01:39 دمشق

photo_2020-10-22_17-32-42.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل يستدعي الحديث عن مسارات الثورة السورية واستعصاءاتها الراهنة ومآلاتها الموجعة، النظرَ في طبيعة الصراع الحاصل بين الشعب السوري ونظام الحكم من جهة، و بين القوى المتنفّذة على الأرض السورية وأشكال تناحر المصالح الإقليمية والدولية بين بعضها بعضا من جهة أخرى، أم يستدعي البحث في بنية الدولة السورية ونظام الحكم السياسي من حيث ماهيّته وكيفيّة تشكّله، ومن ثمّ قدرته على إحكام قبضته على البلاد طيلة ما يقارب نصف قرن؟

لعل تداخل الأسئلة السابقة وتشابكها يشير بوضوح إلى حالة التشعّب الشديد التي هيمنت على قضية السوريين الذين انتفضوا في وجه النظام الحاكم في سوريا، ولهذا بات من غير الميسور على المرء أن يقارب الحالة السورية دون الإحاطة ببواعث تلك التشعّبات التي باتت مصدر استعصاء لمجمل الحلول السياسية المطروحة.

كتاب ( الصراع في سوريا) لمؤلفه الكاتب والباحث فراس علاوي، هو أحد الكتب الصادرة حديثاً عن دار موزاييك في إسطنبول، والذي يحاول الإحاطة بسيرورة الثورة السورية منذ انطلاقتها، موازاةً مع التقصي لمجمل الظروف الداخلية والعوامل الإقليمية والدولية التي كان لها دور كبير ومؤثر فيما آلت إليه الأمور.

ولعله من الضرورة الإشارة إلى أن السيد فراس علاوي لم يتعاط مع موضوعه من منظور المؤرِّخ الذي يهتم بتوثيق الوقائع ومنهجية بيانها وإيصالها للقارئ فحسب، بل اعتقد أن مساهمته في هذا الكتاب لم تكن بعيدةً عن موقعه كناشط في صفوف الثورة، ومتابع باهتمام لمجمل الحراك السياسي والثوري، وهو بهذا ينطبق عليه القول: إنه يكتب من داخل الحدث، كما يقال، وليس من خارج أسواره، ولعل هذه الطريقة في الكتابة هي التي جعلت المؤلف قلّما يحفل بمسألة التوثيق أو أن يتقيّد بالمسائل المنهجية التي غالباً ما يلجأ إليها المؤرخون، بل آثر الكتابة من موقع الثائر، صاحب القضية، مما جعل الكتاب يأخذ طابع ( القراءات الشخصية، العامة ، مقالات الرأي، والتحليلات والرؤى حول الثورة السورية بشكلها العام) ص9 .

ولئن كان من العسير الوقوف عند مجمل محاور الكتاب وفصوله، إلّا أنه يمكن الوقوف بإيجاز عند ثلاثة محاور، هي الأكثر أهمية كما أعتقد.

 

1 – الدولة الأسدية ، ماهيّتها ومقوّماتها:

لعل الحاجة إلى إضاءة هذه المسألة تبدو شديدة الأهمية، وبخاصة لجيل الثورة الجديد الذي لم يشهد بدايات تأسيس العنف واعتماده منهجاً لدى آل الأسد، مما جعل البعض يظن أن نظام بشار الأسد هو وليد العام 2000، وأن مواجهته لا تختلف عن مواجهة أي نظام استبدادي في المنطقة العربية، بل لعلنا لا نبتعد عن الصواب إن اعتقدنا أن الكثير من أخطاء قوى المعارضة السورية كان سببها – للأسف – الجهل بماهيّة النظام أو طبيعته، وبالتالي عدم القدرة على استشراف ما يمكن أن يقدم عليه النظام من ممارسات.

ولهذا نجد المؤلّف يقدّم تمهيداً جيداً لبدايات تشكّل (الدولة الأمنية)، يبدأ بالحديث عن الحياة السياسية في سوريا منذ مرحلة الاستقلال، مروراً بالانقلابات العسكرية المتتابعة، ثم مرحلة الوحدة مع مصر 1958 ، ويليها مرحلة الانفصال عام 1961، وصولاً إلى آذار 1963 حيث وصل حزب البعث إلى السلطة، إذ ثمة حقبتان تركتا آثاراً خطيرة على الحياة السياسية في سوريا، الأولى من آذار 1963 إلى شباط 1966 حيث شهدت تلك الفترة صعود سلطة العسكر موازاة مع فرض حالة الطوارئ والبدء بتجفيف السياسة من المجتمع، فضلاً عن التصفيات الجسدية وحالات الاعتقال التي كانت تجري ضمن ما يُسمى تصفية الحسابات والصراع على السلطة، وتبدأ الثانية من انقلاب تيار صلاح جديد على تيار ما كان يدعى بالقوميين أو المؤسسين، حيث بدأ يتبلور النهج  الطائفي لنظام الحكم، وكذلك بدأت تتوضح التداعيات الخطيرة لما خططت له ورسمته (اللجنة  العسكرية التي ضمت خمسة من الضباط عام 1958 ) ص76 ، موازاة مع تعزيز قبضة العسكر على مقاليد السلطة والحزب معاً. ثم جاء انقلاب حافظ الأسد في تشرين ثاني 1970 حاسماً للصراع داخل صفوف البعث.

يمكن الذهاب إلى أن نظام الحكم الراهن بكامل مواصفاته هو من تصميم وهندسة حافظ الأسد، وأن حالة العنف الدموية التي تُغرِق السوريين في بحر من الدماء هي استمرار للعنف الذي بدأ يسفر عن منهجيته في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ولئن استطاع الأسد الأب ان يقمع الشعب السوري من خلال ذراعيه القويين ( الجيش والمخابرات) طيلة ثلاثة عقود من الزمن، مما جعل حالة الخوف من بطش السلطة كابحاً حقيقياً لأي مناهضة جماهيرية فعّالة ضدّه، فإن الأسد الابن – وبفعل قوانين التاريخ – لم يعد بمقدوره استثمار نجاعة الخوف في كبح المواطنين، وخاصة أجيال الشباب التي لم تطلها أو تتمكن منها مورثات الخوف، فكان لا بدّ من الانفجار.

يمكن الذهاب إلى أن نظام الحكم الراهن بكامل مواصفاته هو من تصميم وهندسة حافظ الأسد

2 – الثورة السورية في سياق ثورات الربيع العربي:

في سياق الحديث عن هذا الجانب، يذكر الباحث الأسباب المشتركة لثورات الربيع العربي كافة، والتي تتمثل بأشكال من الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني، ثم يتوقف بشيء من التفصيل عند الأسباب الجوهرية التي تقف وراء انطلاق الثورة السورية، ولئن وجد الباحث أن ثمة عوامل تكاد تكون مشتركة بين جميع الأنظمة الاستبدادية، لأن منهج الاستبداد واحد، إلّا أن هذا لا ينفي تفرّد الحالة السورية ببعض السمات المختلفة، ولعل هذا الاختلاف يبدو أمراً طبيعياً جداً، ذلك أن الثورات هي (أحداث تاريخية) وليست طبيعية، وهذا يعني أن لكل بلدٍ خصوصيته ومشكلاته التي لا يمكن أن تكون نسخاً لمشكلات في بلد آخر، ولعل القناعة التامة بهذا المبدأ تجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن السوريين، ومنذ عقود من الزمن، يواجهون (استبداداً مُرَكَّباً) أي استبداد سياسي وطائفي بآن معاً، الأمر الذي أسهم في تحويل السلطة – من وجهة نظر حكامها – إلى مُلْك عضوض لا يمكن التخلّي عنه. ولئن أشار الباحث في غير موضع إلى دور الممارسات الطائفية لدى نظام الأسد، إلّا أن هذه الإشارات بمجملها لا تكشف عن الحجم الحقيقي لكوارث النزعة الطائفية لدى آل الأسد.

3 – الموقف العربي من الثورة السورية:

 

في إطار الحديث عن الموقف العربي من الثورة ، يشير الأستاذ فراس إلى التبدّلات التي طرأت على موقف بعض الدول العربية حيال ثورة السوريين، إذ إن بعضاً من تلك الدول، ودول الخليج على وجه التحديد، كان لها موقف داعم – عسكرياً وسياسياً – للثورة، ولكن هذا الدعم بدأ بالتقلّص نتيجة لعدة عوامل، أبرزها : الصراع القطري السعودي، وموقف بعض الدول من مسألة احتواء إيران ...إلخ، ص 330 ، إلّا أن القارئ ربما كان يتوقع أن يتحدث مؤلف الكتاب عن الوجه الآخر ( الحقيقي) للموقف الخليجي في حالتيْ دعمه للثورة وتراجعه معاً، وسأكتفي بالإشارة السريعة إلى مسألتين اثنتين:

1 – التدخل الخليجي في سوريا محكوم برغبة محاربة إيران على الأرض السورية ( الحرب بالوكالة)، أكثر مما هي رغبة في تغيير نظام الحكم في سوريا، وقد ارتبطت هذه الرغبة بالاستراتيجية الأميركية حيال إيران والتي كانت قائمة على مبدأ ( احتواء الدور الإيراني وليس الإجهاز عليه)، فضلاً عن الالتزام الخليجي بالاستراتيجية الأميركية التي لم تكن تهدف إلى تمكين المعارضة السورية من إسقاط نظام الأسد، ولعل التزام جميع الداعمين للثورة بعدم تزويد المعارضة السورية المسلّحة بأسلحة نوعية ( صواريخ مضادة للطيران مثلاً) دليل واضح على ذلك.

2 – لقد تزامن تراجع الدعم الخليجي للثورة السورية مع التدخل الروسي المباشر في أواخر أيلول 2015 ، وخاصة ان هذا التدخل كان بتفويض من الإدارة الأميركية آنذاك، وقد بدا واضحاً فيما بعد مقدار التنسيق بين السعودية موسكو، من خلال عقد مؤتمر الرياض1 ، والرياض2 ، وإدخال منصتي موسكو والقاهرة ليكونا جزءاً من هيئة التفاوض.

كما يمكن الإشارة إلى أن الموقف العربي كان سيشهد انعطافة كبيرة باتجاه إعادة العلاقة مع النظام السوري بمسعى مصري إماراتي، بل وإعادة تفعيل عضوية نظام دمشق في الجامعة العربية لولا الرسالة الصارمة التي وجهتها واشنطن في أواخر العام 2019 إلى الخارجية المصرية لوقف تلك الانعطافة.

وأيّاً كان الشأن، فإنه يمكن التأكيد على عدم قدرة مقالة بهذا الحجم استعراض مجمل ما طواه الكتاب بين دفتيه، مما يجعل أي حديث عن الكتاب بهذه الطريقة هو بمثابة دعوة لقراءة الكتاب، أكثر مما هي تعريف به، ليس لوفرة ما انطوى عليه من معلومات وتحليلات فحسب، بل لكونه سجلّاً لوقائع ثورة على مدى تسع سنوات بكل تشعّباتها، فضلاً عن متابعة دقيقة لتعاقب الأحداث وتداعياتها المحلية و الإقليمية والدولية، ولا شكّ أن صنيعاً كهذا قد استوجب جهداً كبيراً، وقد واجهه فراس علاوي بكل صبر وعزيمة.

 

. 1 – الصراع في سوريا – حرب العقائد والجغرافيا - تأليف : فراس علاوي - عدد الصفحات  390 ص - دار موزاييك – إسطنبول