الصدامات المجتمعية في تركيا.. دعوة للعقلاء لمكاشفات صريحة

2021.09.15 | 06:33 دمشق

ysbsyb.jpg
+A
حجم الخط
-A

أثارت أحداث الشغب التي اندلعت في العاصمة التركية أنقرة قبل أسابيع حالة من التوتر الكبير في المجتمع التركي وحتى في أوساط السوريين المقيمين في تركيا، خاصة وأنها جاءت بعد تصريحات تحريضية من بعض الأطراف السياسية المحسوبة على المعارضة التركية ضد اللاجئين السوريين، والتي يمكن توصيفها ضمن إطار حملة انتخابية استباقية تسعى إلى دغدغة مشاعر الشارع وتعبئته في وقت مبكر.

وتشكل أحداث الشغب عادة حدثاً اجتماعياً لا يجب تجاهله أو اعتباره حالة عارضة، خاصة وإن تكررت هذه الأحداث أو حملت في طياتها سلوكيات عدائية تستهدف شريحة محددة من المجتمع، فمثل هذه السلوكيات لا يجب أن تقابل بخطابات التهدئة فقط، ولا يكفي معها تصريحات إعلامية أو حتى سياسية، بل لا بد من وضع خطة عمل على كل المستويات لاحتواء المشكلة ومنع تكرارها، وتفريغ هذا الاحتقان في القنوات الصحيحة حتى لا يتحول إلى قنبلة يمكن أن تستخدمها بعض الجهات لأغراض تخريبية.

 التجاهل أم المواجهة؟

يحذر بعض المختصين من إمكانية تكرار هذه الصدامات مستقبلاً بشكل قد يهدد السلم الأهلي المجتمعي، خاصة وأن حالة الاستقطاب الحادة التي يشهدها المجتمع التركي قد تفاقمت نتيجة تداعيات الأزمة الاقتصادية التي فاقمت جائحة كورونا من آثارها، ونتيجة التجاذبات بين الأحزاب المعارضة والحزب الحاكم الذين يتحضران مبكراً لخوض الانتخابات المقبلة.

ومع هذا المشهد المربك، ومع ما يحمله ملف اللاجئين السوريين الكبير في تركيا من إنجازات وتعقيدات وتحديات ومشكلات، يبرز السؤال الأهم، كيف يمكن أن نواجه حالة الاحتقان المتصاعد الذي لا يختص بالطرف التركي فحسب، بل يؤثر وبشكل كبير على الطرف السوري الذي توجه له الدعوات دائماً بالتحلي بالصبر واحترام أدب الضيافة، دون أن يلتفت أحد لتأثير هذا الاحتقان المتصاعد عنده أو عليه.

وفي هذا السياق قد يلجأ بعض السوريين إلى الاستراتيجيات الداعية للتهدئة وإنكار وجود مشكلات والتقليل من حجمها والتأكيد على قيم التآخي والتسامح، وهي استراتيجية قد تجدي نفعاً لوقت محدود مع العامة، إلا أنها أصبحت محدودة التأثير خاصة مع غياب الخطوات القانونية التي يمكن أن تطمئن الفئات المستهدفة وتؤكد على حمايتها وأمنها وسلامتها.

ومن جهة أخرى، يُفترض على العقلاء وأصحاب الرأي والقرار السوريين والأتراك، التداعي والنظر في الأسباب التي أوصلت المجتمع إلى هذه الحالة واقتراح حلول لسحب فتيل الأزمة قبل أن تتحول الشرارة الصغيرة إلى حريق يصعب احتواؤه أو السيطرة عليه أو على الخسائر التي قد يتسبب بها.

وهنا لا يمكن إنكار الجهود المبذولة لاستيعاب المشكلات، إلا أن الخطوات في هذا الصدد لا تزال بطيئة وغير ملموسة، وغير متناسبة مع الحجم المحتمل للمشكلة وتداعياتها، خاصة أن التأخر في حل بعض المشكلات عقّدها وجعل من مواجهتها أمراً يحتاج لكثير من التخطيط والجهود المستدامة، بيد أنه من الواضح لدى الجميع أن استراتيجية الإنكار والتجاهل لم تعد مناسبة مع المشهد الحالي، ولم تعد مواجهتها بالطرق المعهودة كافيةً، خاصة وأن وتيرة التصعيد الحالي باتت أشبه بجرس إنذار أحمر ينذر بحريق مستقبلي لابد من الاستعداد له وإطفاء منابعه وتجفيفها لمنعه من الاشتعال قبل فوات الأوان.

أين الخلل؟

لا يخفى على أحد الجهود التي تبذلها الجهات الحكومية التركية، التي تحاول إدارة عملية اندماج السوريين في المجتمع التركي، ولا يخفى على أحد الجهود التي يقوم بها السوريون كمنظمات وتجمعات وحتى أفراد في التعريف بالمشكلات واقتراح بعض الحلول لها، ولا يخفى أيضاً عشرات الدراسات الأكاديمية التي تقوم بها جامعات ومراكز أبحاث تركية وأجنبية وسورية، ركزت على دراسة تجربة اللجوء السورية في تركيا وسلطت الضوء على المشكلات وقدمت لها بعض المقترحات والحلول.

 إلا أن هذه الدراسات لم تستطع أن تقدم فهماً كاملاً للمشكلات، خاصة وأن كل طرف يعمل بشكل منفرد، يُقيم المشكلة ويقترح الحلول من وجهة نظره الشخصية، ولعل الجانب السوري – وهو من باب الاعتراف بالتقصير- هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة والأقل جهوداً، فاطلاعه على واقع المشكلات عند السوريين هو الأعمق لكنه لم يترجم هذه المعلومات إلى أوراق ذات منهجية يمكن أن تساعد صانع القرار على تقديم الحلول.

فعلى سبيل المثال ركزت حملات التحريض على بعض السلوكيات السلبية التي قام بها بعض الشباب السوريين، وتم استثمار بعض الصور على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل ممجوج، حتى أصبحت هذه الشريحة تحت المجهر تترصدها العدسات لتلقط الأدلة التي تثبت انحرافها وسوء سلوكها وتعمم هذه الصورة النمطية على بقية السوريين.

واعتبر كثيرون أن مثل هذه السلوكيات هي سبب رئيسي في تصاعد الاحتقان التركي من الوجود السوري، إلا أن أحداً لم يكلف نفسه عناء البحث وراء أسباب ظهور هذه السلوكيات، والسؤال عن الدافع وراء التصرف بشكل مسيء ومتكرر للمجتمع السوري قبل المجتمع التركي، بل اكتفى الجميع بإدانة هذه التصرفات والهجوم على أصحابها واتهامهم بالطيش والتهور دون تقديم أي حلول أو مد يد المساعدة لها.

وعند التعمق في دراسة هذه الشريحة من الناحية النفسية ومن ناحية الظروف التي تعيشها، يظهر جلياً أننا أمام شريحة فتية قضت طفولتها في ظروف غير مستقرة، وشهدت تجارب قاسية سواء خلال الحرب أو خلال رحلة اللجوء، ولم تتح لها الفرصة للتعافي أو لتجاوز آثار الصدمات السابقة، وإنما فرضت عليها ظروف الحياة الجديدة دخول سوق العمل ومعاركة الحياة دون خبرات أو استعداد.

ولعل واقع عمل هذه الشريحة يضيء جانباً خفياً من حياتها، فقد أشارت دراسة حديثة حملت عنوان "العمالة السورية في سوق العمل التركي"  إلى أن  87% من العمالة السورية المدروسة ينتمون إلى الشريحة العمرية بين 18-30، 92% منهم يعملون أكثر من 45 ساعة أسبوعياً، 75% منهم يتلقون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، و92% منهم يعملون بشكل غير نظامي.

وهذا يعني أن هذه الفئة تتعرض لاستغلال كبير من قبل أرباب العمل السوريين والأتراك بظروف قاسية ورواتب متدنية ولساعات طويلة، لا يحميها قانون العمل نظراً لأنها تعمل بشكل غير قانوني، كما أنها فئة فتيّة تعرضت للإهمال والتجاهل، فلم يمد إليها أحد يد المساعدة، ولم يفكر أحد باحتياجاتها، عدا عن كونها على احتكاك يومي بالمجتمع، تتعرض فيه لبعض آثار خطاب الكراهية الذي يحملها مسؤولية ارتفاع معدلات البطالة بين الأتراك، ويقوم بالتحريض عليها ومطالبتها بالعودة الفورية إلى بلادها غير الآمنة.

 وبالتالي تم تحويل هذه الفئة من ضحيةٍ لظروف صعبة تركت فيها وحيدة، إلى هدفٍ ومصدر خطر يجب الحذر أو التخلص منه، فهي كما صورها الإعلام تشكل تهديداً أمنياً واقتصادياً وثقافيا على المجتمع الذي وفدت إليه، وأصبحت تشكل تهديداً إضافياً على المجتمع الذي تنتمي إليه نظراً لتورطها في المشكلات دون وعي أو إدراك للعواقب.

المسؤوليات الغائبة

قد يكون التصدي لهذه الصدامات العنصرية مسؤولية الحكومة التركية بالدرجة الأولى من خلال إيقاف حملات التحريض الإعلامي ومحاسبة مرتكبيها كما تنص مواد القانون من جهة وتفعيل الملاحقة القانونية تجاه أي طرف يعتدي على طرف آخر مهما كان نوع الاعتداء، وإعادة النظر في الخطاب الحكومي حول حجم المساعدات المقدمة والتعامل بشفافية مع هذا الملف نظراً لتأثيره التحريضي غير المباشر.

 إلا أن ذلك لا يلغي مسؤولية السوريين ودورهم في التصدي لهذه المشكلة، فمسؤوليتهم تتجاوز دعوات التهدئة إلى برامج وخطط طويلة الأمد تقوم عليها منظمات وجمعيات سورية، تحاول فيها تقديم تصورات واضحة لحل مشكلات السوريين في تركيا مدعومة بخطة عمل تنفيذية، وأن تقنع الجهات الدولية الداعمة على تبني هذه المشاريع وتمويلها والإشراف عليها وتقييم عملية التنفيذ وتصحيحها.

ومن جهة أخرى تتحمل هذه المنظمات مسؤولية التوجه إلى الشرائح التي تم تجاهلها لسنوات، ودراسة أوضاعها والتفاعل مع احتياجاتها، وتأمين بيئة حاضنة لها تدعمها نفسياً واجتماعياً وقانونياً وتخفف من آثار الاحتقان الذي تواجهه والذي يتراكم لديها، وتوجه طاقاتها وجهودها في قنوات ذات فائدة، بدل أن تتفرغ هذه الطاقات في الوقت والزمان غير المناسبين، وتتجدد موجات اللجوء نحو أوروبا بشكل يخلق مزيدا من الفوضى والضغوط على كل الأطراف.

كما أن المسؤولية المجتمعية المشتركة تفرض أن تجتمع الأطراف الثلاثة معاً – التركية والسورية والمنظمات الدولية-، عند عملية التخطيط ورسم البرامج، وذلك لضمان تحقيق أكبر فائدة من تلك البرامج والوصول إلى كل الشرائح ولضمان تقديم مقاربة دقيقة تتناسب مع المشكلة وتعالج أسبابها الحقيقية.

وفي الختام قد يكون من الواجب على المجتمع الدولي إعادة النظر في سياساته للتعامل مع المشكلات في دول العالم، ولا سيما سوريا، وإعطاء الأولوية لإطلاق عملية سلام مستدام وحقيقي بعيداً عن مصالح الدول الآنية، وضمان عودة آمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم في سياق حل متكامل يزيل أسباب المشكلة من جذورها ويمنع احتمالية اندلاعها مستقبلاً.