الصبر

2021.03.11 | 06:50 دمشق

barat_n_alsbr.jpg
+A
حجم الخط
-A

لو عدنا إلى تراثنا في مختلف مستوياته، الشعبي والرسمي، الشفوي والمدون، لوجدنا أنه يحتفل بقيمة الصبر احتفالاً عظيماً، وينزلها منزلة رفيعة ومتميزة داخل سلم القيم الذي تعترف بفاعليته وسيادته على العقول والأنفس أكثرية المنتمين إلى الثقافة العربية الإسلامية بكل تجلياتها. بل إننا في الحقيقة نجد، حضاً على التقيد بهذه القيمة بصرف النظر عن المهالك والمآزق التي قد يفضي إليها هذا التقيد بالنسبة للأفراد والجماعات على حد سواء. أضف إلى ذلك أن الجانب المقدس[1] من ثقافتنا هو نفسه قد عزز هذا الاتجاه نحو قيمة الصبر وتحمل ما يترتب عليها من مشقات ومتاعب وآلام ليس من الضروري أن يقبل الفرد والجماعة تجشمها في كل حين.

ونرى أنه لا بد من التمييز بين الحكمة والصبر. ونحن نستمد هذا التمييز ذاته من وجود هاتين القيمتين ضمن الثقافة العربية شأنها في ذلك شأن جميع الثقافات الإنسانية. فالحكمة تشير إلى موقف يكون فيه الحكيم على وعي بما ينبغي فعله وما ينبغي تركه في هذه اللحظة أو تلك، انطلاقاً من معايير عقلية أنتجتها الثقافة عبر تطورها. ومن المألوف، في كثير من الأحيان، ألا تكون (الحكمة) إلا غطاء للصبر ومرادفاً له، لا أكثر ولا أقل.

وبخلاف الحكمة – بمعناها الحقيقي – فإن الصبر يشير إلى حكم معياري أو حكم وجوب يتعين بمقتضاه على المرء أن يتحمل كل وجوه الأذى والظلم والعدوان التي يمكن أن تنصب عليه سواءً من داخل الثقافة أو خارجها. وهذا الاحتمال ليس مقترناً بزمن محدد ولا بوقت معلوم، وذلك لأن الصبر نفسه يتحول إلى علة ذاتها لا تنطوي على إمكان الخروج من الأوضاع السيئة التي ذكرنا بعضها.

فالصبر يتحول إلى علة لأنه مفتاح للفرج في نظر الصابرين. وهكذا يصبح معلولاً وعلة. هو معلول من حيث أنه وضع ينبغي قبوله والتكيف معه، على الرغم من أن المرء قد يكون واقعاً تحت صنوف لا حصر لها من الظلم والعدوان. ولكنه أيضاً علة من حيث هو الوسيلة الوحيدة التي من واجب من وقعت عليه صنوف الظلم والعدوان هذه. أن يحتملها، وينتظر الخلاص منها إلى ما لانهاية، أي حتى يتحول الصبر ذاته إلى مفتاح للفرج.

وهنا لا بد من التساؤل عن مغزى هذا الاندماج بين العلة بالمعلول، مع أن الوضع الطبيعي يقتضي الفصل فيما بينهما، والاقتناع بوجود مسافة فعلية وزمانية كافية لفصل هذا عن ذاك؟.

ربما كان الجواب الوحيد الممكن لتحديد مغزى اندماج العلة بالمعلول هنا، هو أننا بإزاء سلبية مطلقة أو انعدام مطلق للفاعلية. إذ لا يمكن للسلبية أن تكون شيئاً آخر غير هذه المقدرة على إحاطة المعلول بالعلة أو حصار المعلول للعلة الذي ينتهي آخر الأمر في حالة السلبية المطلقة، إلى استيلاء المعلول على العلة، وابتلاعه ابتلاعاً تاماً وإلغاء كل أثر له.

وعلى ذلك فالصبر من الناحية النفسية هو اعتراف الإنسان بأنه معلول مطلق من ناحية، واعترافه، من ناحية أخرى، بأنه كائن لا تتجاوز فاعليته فاعلية الترقب والانتظار الترقب لما يفعله المعلول فيه، والانتظار الأليم الذي يفترض بموجبه أن يتحول الصبر إلى مفتاح للفرج.

السلبية المطلقة، والجبرية اللامحدودة، والحتمية الصارمة، والقدرية المتطرفة، هي العناصر الجوهرية التي يتشكل منها الفرج ويتكون منها الانتظار والترقب. وما هذه المكونات في الحقيقة إلا مكونات السلبية المطلقة ذاتها.

(الصبر مفتاح الفرج) معناه أن لا علاج ولا شفاء لكل الأدواء الشخصية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، إلا بالصبر ذاته.

وإذاً فنحن بإزاء بنية نفسية أنتجتها ثقافتنا ورسختها في نفوسنا عبر مئات السنين. والسؤال الذي لا بد من طرحه هو: هل علينا أن نعيد النظر في البنية النفسية أم في البنية الثقافية التي أنتجت البنية النفسية المشار إليها؟

يبدو أن الإجابة هي أن العنصرين كليهما يتطلبان إعادة النظر في وقت واحد. إذ ليس من المنطق أن نؤجل نقد البنية النفسية حتى نفرغ من نقد البنية الثقافية وتصحيحها في الاتجاه المطلوب. بوسع التربية أن تمكننا من نقد البنيتين في آن معاً فنقد البنية النفسية من شأنه أن يتم باستحداث مثل عليا مناقضة ومناهضة لكون الصبر مفتاح الفرج. وذلك معناه أن من واجب التربية أن تعزز تجربة الحرية وخبرة الفردية في ناشئتنا. ومن شأن هذا النقد الذي تقوم به التربية للبنية النفسية أن ينعكس على المدى الطويل على البنية الثقافية الموروثة التي تعزز السلبية والجبرية والحتمية والقدرية في نفوس ناشئتنا بل والناضجين منا. ولئن لم نصغ تربية تكون قادرة على فعل ذلك، فسنظل في لا شعورنا نوحد بين المعلول والعلة، ونعيد إنتاج هذه البنية الذهنية والنفسية الزائفة. فهل من مصلحةٍ لأي منا في الإبقاء على البنيتين المذكورتين مقدستين، وخارج طائلة النقد الجدي؟!!!

 

-[1] كان بالوسع هنا أن نسرد مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية وعشرات من الأحاديث النبوية التي تكشف جميعها عن أهمية الصبر وقيمته. وارتأينا بدلاً من ذلك استكمالاً للفائدة أن نشير إلى ما لعبه المستشرقون من أدوار إيجابية مهمة في تحقيق التراث الإسلامي وجمعه وتنظيمه وطبعه وتسهيل الوصول إلى مفرداته وموضوعاته بأبسط الوسائل والأساليب. وقد بذلوا في ذلك أجمل الصبر وأعظمه. وعلى سبيل المثال يُحمد للمستشرق الهولندي (فنسنك) صنيعه في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي الذي تمخض عن معجمين مهمين يسرا سبلَ الاطلاع والوصول إلى أدق التفاصيل التي لا مندوحة لأي باحث عن معرفتها واستعمالها في البحوث المتعلقة بالقرآن والسنة. المعجم الأول خاص بألفاظ القرآن ومفرداته ورتبت فيه الآيات على حروف المعجم العربي. وفي الثاني رتب ألفاظ الحديث النبوي على أحرف المعجم بحسب ورودها في الصحاح أو السنن وغيرها من الكتب. وهناك نوع ثالث من المعاجم اضطلع بإعداده أحد المستشرقين الفرنسيين. وهو معجم خُرّجت فيه الآيات القرآنية على أحرف المعجم العربي أيضاً. والجديد في هذا المعجم أنه معجم موضوعي تندرج الآيات تحت موضوعاتها بدلاً من التماس الآيات مفردة.