الشمال السوري والسيادة

2019.10.25 | 18:32 دمشق

almntqt_alamnt.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يتوقف نهر الاتفاقات والتفاهمات حول الوضع السوري لحظة عن الجريان منذ بدأت الثورة السورية، قرارات دولية وأممية وعربية وإقليمية ومحلية تحت أسماء وأشكال شتى، حيناً باسم قرارات وأخرى باسم اتفاقات وثالثة باسم تفاهمات.. مصالحات ...إلخ ما كان منها علنياً فوق الطاولة أو تحتها.. ما سُرب منها عمداً أو خدمة لطرفٍ ما وما تناقلته أجهزة إعلامٍ موضوعية أو مشبوهة، بالمقلب الآخر فإن السوريين بمكوناتهم المختلفة يعيشون واقعاً قلقاً، فكل ما جرى ويجري يجعل أمورهم دوماً في مهب المجهول...

وإذا كان حديثي اليوم يتطلب وضع ما حدث في مؤتمرات الداخل والخارج جانباً وبخاصة قرارات جنيف واحد إلى سلسلته المفتوحة، وأستانا وفيينا وسوتشي والاجتماعات الثنائية والثلاثية والخماسية ...فإنه سيقف عند ما يحدث اليوم من تفاهمات تذاع أحياناً باسم اتفاقات حول ما يجري في شمال وشرق الأرض السورية وبالتحديد ما يُطلق عليه اليوم (شرق الفرات)، محاولاً فهم ما بين السطور...

الاتفاق أو التفاهم الأخير الذي جرى بين الإدارة الذاتية والنظام الأسدي والذي عملت عليه الديبلوماسية الروسية أشهرا متعددة، وفق محاورات مكوكية (بين تركيا والنظام الأسدي تنظيمات قسد، والـ ب ك ك، والإدارة الذاتية، والـ ب واي ك )، وبموافقة ضمنية من الإدارة الأمريكية، الاتفاق الذي يقضي بانسحاب القوات المسلحة الكردية لما بعد عشرين ميلاً أو أكثر بقليل، وتسليم الشريط الحدودي للجيش السوري النظامي، وبهذا تتوقف الهجمة التركية من جهة لزوال أهم مبرراتها، ولا يتعرض الكرد لمقتلة يعجزون عن ردها...

لكنَ المشكلة الحقيقية هي في تفاصيل ذلك الاتفاق، فالإدارة الذاتية تُعلن أنها لن تسمح للجيش السوري بالوجود إلا في أماكن تحددها له وهي أماكن حدودية تماما، وستستمر بوضعها المنفصل واقعياً عن الدولة السورية ونظامها وكأنها تحقق على الأرض ما يُماثل إقليم كردستان العراق، بل أكثر منه من خلال سيطرتها على مدن الحسكة والرقة ودير الزور ومن خلال فرض حواجز وحدود للداخلين والخارجين وعمليات التطهير العرقي للعرب والكرد المختلفين معها، هذا غير التفرد إدارياً بالاقتصاد والتعليم والجيش و..و...أما الأتراك فيعلنون قبولهم بوجود الجيش السوري على الحدود من خلال رهانهم على الشرعية المعترفة له دولياً، والنظام الأسدي يتقبل فكرة تحول جيشه الضعيف المنهك إلى ما يشبه قوات فصل أممية علَه يستعيد مستقبلاً السيادة على الأرض السورية وفق وعود الروس الذين يرقصون ببهلوانية على حبال الديبلوماسية....

الاتفاق يعترف واقعياً باستقلالية الإدارة الذاتية، وإلا لِمَ تحتاج دولة ذات سيادة(!!)لتوقيع اتفاق مع إدارة ذاتية لبعض محافظاتها من أجل نشر قواتها على أراضيها للدفاع عن حدودها؟

إن ذلك الاتفاق يعترف واقعياً باستقلالية الإدارة الذاتية، وإلا لِمَ تحتاج دولة ذات سيادة(!!)لتوقيع اتفاق مع إدارة ذاتية لبعض محافظاتها من أجل نشر قواتها على أراضيها للدفاع عن حدودها؟ اتفاق تصنعه وتفرضه وتضمن قبوله وتنفيذه دولة روسيا، وهل سيمنع الاتفاق الجيش السوري من السيطرة على تلك المحافظات وإعادة إدارتها إلى الحكومة المركزية؟؟ وتنفيذ قوانينها وفق الدستور الحالي ريثما يتبدل ذلك الدستور وتتحدد صلاحيات الإدارة الذاتية وعلاقتها بمركزية الدولة؟؟

هل هناك تفاهمات روسية - أمريكية غير معلنة تعطي التنظيمات الكردية ذلك الحق أم هي تفاهمات تركية روسية؟ أم روسية سورية مختلفة؟ أم روسية- تركية؟ أم أمريكية – تركية؟؟؟ والتحرك الأمريكي اليوم يعلن انسحابه من الحدود وتموضعه حول آبار البترول قرب دير الزور للإشراف على إدارتها بعد أن اعتمد قسد لتلك الإدارة...(وهذا ما صرح به السيناتور ليندسي غراهام رئيس لجنة العدل في مجلس الشيوخ الأمريكي أثناء مقابلته لقناة فوكس ونشره موقع كلنا شركاء مترجما، وأضاف بأن عائدات النفط ستكون لقسد فقط)...فهل هذا من بنود الاتفاق أيضاً؟؟ 

إنها تساؤلات برسم من يحتفل بالانتصارات المزيفة ولايرى ما وراء الأكمة، ويقيناً أن أحداً من الدول صاحبة القرار لن تهتم بدولة لاتملك قرارها.. هذا عدا عن تراكم أسبابٍ لاحصر لها تشي بخلوها من مقومات أية دولة....

أما مسألة المنطقة العازلة أو الآمنة، فهي اتفاق تركي- أمريكي- بقبولٍ روسي ضمني لكنه واقعياً لن يحل المشكلة التركية- الكردية، ولا مشكلة المهجرين السوريين في تركيا أو بالداخل السوري وبالطبع لن يحل المشكلة الكردية السورية فضلاً أنه لن يعيد السيادة للدولة السورية بكل الأحوال....

إن شريطاً فاصلاً بين تركيا و تنظيمات الأكراد المسلحة والتي تعتبرها تركيا خطراً على أمنها القومي، شريطاً مقتطعاً من الأرض السورية، بحجة اللاجئين، لا يضمن حتى لو بقي الجيش التركي به عقوداً من السنين أو أوكل أمره إلى قوات دولية – كما يُقال- لايضمن هجمات الـ ب ك ك أو ما يماثله من التنظيمات طالما هما على تماس دائم في حدود ذلك الشريط... وبالتالي لن يشعر سكانه بالأمان وسيظلون بحالة اضطراب وعدم استقرار مما سيتسبب بهجرة جديدة لهم، ويزيد الأمر اضطراباً إذا لم يكونوا من ساكنيه القدماء أنفسهم، ولن تترك التنظيمات الكردية المسلحة العمق التركي بسلام طالما أن مشكلتهم معلقة...

إن المشكلة الكبرى للتنظيمات الكردية هي جذرياً في تركيا، وحزب العمال الكردستاني هو حزب تركي، بمعنى تنظيمه وقيادته ومجال وجوده التاريخي.

إن المشكلة الكبرى للتنظيمات الكردية هي جذرياً في تركيا، وحزب العمال الكردستاني هو حزب تركي، بمعنى تنظيمه وقيادته ومجال وجوده التاريخي، ويبدو أنه الأعلى صوتاً، بالرغم من اعتباره تنظيماً إرهابياً في القرارات الأممية، والأشد تنظيماً، كما يبدو أن معظم المقاتلين الأكراد في سورية يتحركون بتوجيهاته، بالرغم من اختلاف كثير من الأكراد السوريين معه إيديولوجياً، وحرصهم على التمايز عنه، ودون حل تلك المشكلة سيبقى الأكراد ورقة تلعب بها مصالح الدول الأقوى، والحقيقة أن الدولة التركية منذ أواخر العهد العثماني إلى اليوم تعتقد أن القوة هي الوسيلة الأنجع في كبح جماح الكرد ولاسيما المتطرفين منهم، والكرد بدورهم تقامر تنظيماتهم المسلحة بشعبهم، فلم يتعلموا دروس تاريخهم، ولم يتنبهوا لما حدث في دولة مهاباد في إيران زمن الاتحاد السوفييتي، وكردستان العراق، أو تاريخ علاقتهم بالدول الموجودين بها والنظام العالمي...

عندما بشَر كيسنجر بدولة كردية مستقبلية أوائل سبعينات القرن الماضي اعتقد بعض زعمائهم أن تحالفاً مع الولايات المتحدة كفيلٌ بظهور تلك الدولة. لكنَ رياح النظام العالمي كانت باتجاه آخر وكلام السرايا لا يتطابق غالبا مع رغبات القرايا كما يقول المثل.

الإخوة الأكراد السوريون لكم قوميتكم التي تبلورت بوضوح بالقرن الماضي ولكم الحق بالحفاظ على تمايزكم عن شركاء الوطن الآخرين. لكن ليس لكم الحق بالاستيلاء على أراض مختلطة أو ليست واقعياً ذات أغلبية كردية وليس من الحكمة أو المصلحة أن تتحولوا إلى أداة عدم استقرار وإلى جرح مفتوح للعداوة مع من شارككم التاريخ والحاضر وبالتأكيد المستقيل، وفي ذلك يُقال الكثير، ولعل مقال الشاعر الكبير السوري الكردي "سليم بركات" المنشور منذ سنوات، والذي يدلي برأي متميز في مسألة أكراد سورية، خيرما يُستحضر اليوم، إن استغلال الوضع السوري الحالي من أجل حالة يعتقد بعضكم أنها تحقق مصالحهم، خطأ استراتيجي يضاعف المشكلة بدل حلها.

الحوار مع شركاء الوطن، والعمل من أجل دولة مواطنة تعددية تحقق العدالة والتنمية، هو ما يساهم بإيجاد حلٍ للقضية الكردية في سورية، النظام الأسدي أيام الأب ثم الابن هما المسؤولان الأساسيان في ظهور تلك المشكلة وتفاقمها في سورية، ولذلك تفصيل آخر، ولابد من تشابك الأيادي الكردية العربية مع بقية المكونات السورية لإنهاء تلك الأسباب... وهذه أيضاً مسؤولية النخب العربية في أرجاء الوطن الكبير وفي سورية بخاصة، بل عليهم المسؤولية الأكبر، إن التوصل لحلول مستدامة من أجل وطن سوري يكفل المساواة  والكرامة والتنمية  لكل أبنائه...هو فقط ما يفتح طريق السلامة وما يردم سكة الندامة.