الشمال السوري.. حكايات الصراع والأمل

2021.06.19 | 06:00 دمشق

ffb0942ed9cb9d09e84b5ec23a484db3-l.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل سننجو من مصائر لم نكن نحطط لها يوماً أو يمكن لنا تخيل أهوالها؟ وهل صرنا مجتمعات جديدة تنتج اليوم عادات وقيماً لم تكن في حساباتنا حين أخرجنا من بيوتنا عنوة، وكنا نعتقد حينذاك أننا في طريقنا إلى أمكنة تشبهنا جداً وتتلاقى معنا في الطموح وحلم المستقبل على الأقل في بقعة صغيرة صالحة للعيش بكرامة؟

هذه بعض التساؤلات التي سمعتها من خلال لقاء أجريته مع بعض الشباب السوريين الذين يعيشون في شمال البلاد سواء من أبنائه أو من الذين تم تهجيرهم من أماكن عدة خلال سنوات الحرب القاسية، وفي أغلبهم تركوا مع كل مثال سلبي فسحة أمل يعملون على إضاءتها بمشاريعهم بالرغم من معوقات الإمكانيات القليلة وسلطات الأمر الواقع التي تحكم حياتهم.

المدنيّة أحد أكبر الأحلام الغائبة في ظل سلطات تعزز النعرات والأعراف والذكورية وتهميش المرأة والقادرين على التغيير مقابل صعود أمراء الحرب وزعرانها، والتي تجعل على سبيل المثال من الجامعة بيتاً موزعاً بين الحرملك والسلاملك بينما كانت الأحلام هي خلق بدائل عن جامعات النظام التي تقيس بمقياس الولاء والغش والابتزاز.

يروي أحدهم معاناة الكوادر التدريسية الحالمة بالهجرة، وبعضها هاجر فعلاً نحو أمكنة لا سقف فيها إلآ للمعرفة والعلم، وأما الطلبة الذين لم يجدوا مقعداً لهم- نتيجة الأوضاع الاقتصادية وغياب رعاية سلطة الأمر الواقع وانقطاع الدعم سواء الدولي أو الذي كانت تقدمه بعض المنظمات- فقد آثروا الانخراط في الجبهات أو فروا عبرالحدود باحثين عن مصائر يعتقدون أنها أقل قسوة لكن العديد منهم مات على شريط شائك أو ما زال ينتظر من يخرجه من مخيم بائس على أطراف أوروبا.

السلم الأهلي في أبسط تجلياته مفقود عند ابن الغوطة الشرقية الذي وجد نفسه غريباً في وسط يكرهه ويراه منافساً على الماء والأرض، بل إن الأمر يتعدى إلى اتهامات كبيرة بأنه ربما مرآة لاغتصاب الحق، ومع ذلك يتعاطف مع هؤلاء في بعض مشاكلهم لأن المكان لا يتسع لثقافات متصارعة واعتقادات وأعراف متناقضة، ناهيك عن تصرفات مستفزة من الجميع كتعبير صارخ عن صراع فرضته قوة قاهرة على نسيج لا يمكن أن يتعايش من دون توافقات اجتماعية وإنسانية تضمن حقوق الشركاء الجدد.. شركاء الأمر الواقع.

ما تزال المرأة مواطناً لا تصنيف له سوى أنه يخدم حملة الشعار كمكافأة على تضحياتهم، ولهذا هي تُقتل وتزوج صغيرة وتمنع من التعليم وتلبس وفق هوى المجاهد

الاحتلالات المتنوعة والسيطرات التي حكمت مناطق عدة في الشمال ما زالت آثارها باقية ومؤثرة بالرغم من اندحار أغلبها، وبعض العبارات المكتوبة على جدران البيوت التي تتالت عليها الشعارات ما زالت صامدة في نفوس البعض، والمنتسبون لهذه الجماعات المختلفة ما زالوا يمارسون اعتقاداتهم على أنها الطريق القويم لحكم المكان، ولهذا ما تزال المرأة مواطناً لا تصنيف له سوى أنه يخدم حملة الشعار كمكافأة على تضحياتهم، ولهذا هي تُقتل وتزوج صغيرة وتمنع من التعليم وتلبس وفق هوى المجاهد باستثناءات تمنح الأمل بالتغيير ولو بعد حين على الأقل عندما تكون المرأة هي صاحبة الفكرة والغاضبة من مصير لم تكن تشتهيه في عالمها الجديد.

بين هؤلاء من يرى أن المكان يتسع للجميع إن توافقوا على أن الحياة وتنمية المكان هي هدف الجميع، ولذا بالرغم من حالة السواد العامة وهول الواقع الاقتصادي الصعب إلا أن مشاريع استقرار ناجحة استطاعت الصمود، وجاءت نتيجة رغبة أصحابها بالنجاح، واعتمادهم على القلة التي تؤمن بإمكانية الثبات، وهذه المشاريع الصغيرة تحتاج إلى عوامل أمان (ليست متوفرة)، وشجاعة أصحاب رؤوس الأموال في الخارج الذين عليهم المساهمة في تشجيع عوامل الاستقرار للشباب الذين قد تغويهم الحرب والجريمة وأنماط الحياة الشاذة.

تبدو معاناة مثل تلوث الماء والكهرباء وغلاء الأسعار وفرص العمل القليلة مجرد مشاكل قابلة للتعايش معها أمام ما تتطلبه هذه البقعة من الأرض الحالمة بالتغيير

أما عن مخلفات الحرب الطويلة النفسية والجسدية التي تعاني منها شرائح واسعة فهي تحتاج إلى اجتراح معجزة حقيقية فهناك الأرامل والأيتام وضحايا القصف الذين بترت أطرافهم، والمعتقلون الذين ما زالوا يعانون من أعراض الاعتقال الطويل وآثاره النفسية، وكذلك مغتصبات الزنازين ونظرة المجتمع العنصرية لهن، وحالة العزلة والكآبة التي يعيشن أوارها وسط مجتمع ذكوري شرقي لا يرحم.

من أجل ما تقدم تبدو معاناة مثل تلوث الماء والكهرباء وغلاء الأسعار وفرص العمل القليلة مجرد مشكلات قابلة للتعايش معها أمام ما تتطلبه هذه البقعة من الأرض الحالمة بالتغيير والتي تمتلك مقوماته لو تضافرت الجهود المحلية والدولية وتنازلت سلطات الأمر الواقع عن تمسكها بالتغيير على هواها، واقتربت من أحلام هؤلاء بقدر ولائها للممولين والمشغلين وتنفيذ أجندات من يملك قرارها.