الشراكة الروسية التركية في سوريا

2020.10.26 | 00:14 دمشق

438.jpg
+A
حجم الخط
-A

اعتبر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن بلاده لم تصنّف تركيا حليفاً إستراتيجياً بالنسبة إليها، بل "هي شريك وثيق جداً"، الأمر الذي يطرح أسئلة عن مدى هذه الشراكة وأهدافها وأبعادها، خاصة أنها تأخذ طابعاً إستراتيجياً في عدد من الاتجاهات، حيث تشمل ميادين الاقتصاد والتجارة والسياحة، عبر الدخول في شراكات جيو إستراتيجية جسدتها مشاريع كبرى، مثل بناء محطة الطاقة النووية "آق قويو"، وخط غاز السيل التركي، وشراء تركيا منظومة الصواريخ اس 400، وسواها.

وتمتدّ الشراكة إلى العديد من القضايا الإقليمية والملفات السياسية، وخاصة الملفين السوري والليبي، حيث يعدّ الملف السوري، على مستوى السياسة الخارجية، من أبرز الملفات الذي شهدت شراكة روسية تركية وثيقة في إدارته وتوجيهه، بالرغم من الخلافات في الرؤى والتوجهات، وذلك عبر توقيع اتفاقيات وعقد تفاهمات ومقايضات ما بين تركيا وروسيا منذ نهاية العام 2016، بعد تجاوز ساسة الدولتين أزمة إسقاط تركيا الطائرة الحربية (سوخوي 24) في 24 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، والتحول الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية بخصوص القضية السورية.

 ولعل المبدأ الأبرز الذي تعامل به الطرفان مع الوضع في سوريا، يقوم على أساس منع التصادم العسكري بينهما مهما بلغت درجة الخلافات والتوترات، ومراعاة مصالح بعضهما البعض، وبناء تفاهمات تكتيكية عبر الاتصالات والاجتماعات بين مسؤولي البلدين مع إشراك الأطراف السورية المحلية، نظاماً ومعارضة، التي حصرت مهمتها في الموافقة على ما يتم التوصل إليه، وضمان تنفيذها للمخرجات والتفاهمات، سواء كانت تصّب في مصلحتها أم لا تصّب.

ويضاف إلى نقاط تقاطع مصالح روسيا وتركيا في سوريا، وضع كل من البلدين على الساحة الدولية والإقليمية، حيث ما تزال روسيا تمثل في نظر ساسة أغلب الدول الغربية تهديداً معادياً لها، وتخضع لعقوبات اقتصادية أميركية وأوروبية، لذلك فإن روسيا حققت مكاسب عديدة بتقاربها مع تركيا، كونها قوة لها وزنها وتأثيرها الإقليمي، وجذبها نحو الروس يعني إحداث شرخ في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بوصفها القوة الثانية عسكرياً بعد الولايات المتحدة من حيث القدرات البشرية.

بالمقابل، ابتعدت تركيا كثيراً عن دول الغرب، بالرغم من استمرار عضويتها في حلف الناتو، وذلك على خلفيات فقدانها الأمل في الانضمام إلى منظومة الاتحاد الأوروبي، واتباعها سياسات وتوجهات مخالفة للسياسات الغربية في ملفات عديدة، وخاصة حيال الوضع في سوريا وليبيا وشرقي المتوسط وأذربيجان وسواها.

ومنذ اندلاع الثورة السورية، اتبعت تركيا سياسة مساندة لها، عبر احتضان قوى وتشكيلات المعارضة واستقبال ملايين السوريين الهاربين من جحيم نظام الأسد، وذلك بخلاف التوجهات الروسية المعادية لثورة السوريين وطموحاتهم، والمساندة لنظام الأسد وجرائمه، والتي وصلت إلى حدّ التدخل العسكري المباشر إلى جانبه

بُني مسار أستانا على أنقاض أحياء مدينة حلب الشرقية، بوصفه المحطة المفصلية المدشنة لطبيعة المسار برمته

في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015، ومع ذلك فإن ساسة الكرملين أدركوا تماماً أن مصالحهم الإستراتيجية، على المدى البعيد، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال إرضاء نظرائهم الأتراك، وبناء تفاهمات معهم، وأخذ هواجسهم ومصالحهم بعين الاعتبار. إضافة إلى أن جملة المتغيرات التي حصلت منذ العام 2016، وخصوصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، جعلت كلا من روسيا وتركيا، تقتربان من بعضهما البعض، وتمتثلان إلى حاجة كل منهما إلى الآخر في إدارة الوضع السوري، وبالتالي انخرطت تركيا في مسار أستانا إلى جانب روسيا، ثم التحقت بهما إيران.

وبُني مسار أستانا على أنقاض أحياء مدينة حلب الشرقية، بوصفه المحطة المفصلية المدشنة لطبيعة المسار برمته، الذي نهض حسب التصور الروسي على مبدأ الفصل بين المسارين السياسي والعسكري، والاستفراد عسكرياً بمناطق المعارضة، التي سُميت "مناطق خفض التصعيد"، بغية قضمها والسيطرة عليها واحدة بعد الأخرى، تحقيقاً لبسط النفوذ الروسي على الأرض السورية، ووفق تفاهمات المصالح وتوزع مناطق النفوذ بين رعاته الثلاث.

ومع تنامي الشراكة الروسية التركية في سوريا وقعت الدولتان اتفاقيات سوتشي، التي أثمرت عن تقاسم مناطق النفوذ بينهما، وخاصة في الشمال السوري، سواء في غرب نهر الفرات أو شرقه، حيث أظهر اتفاق سوتشي، الذي توصل إليه الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في 22 أوكتوبر/ تشرين الثاني 2019، توسع مناطق النفوذ الروسي في سوريا، حيث عززت القوات الروسية وجودها في عدد من مناطق شرقي الفرات، بالمقابل ضمت تركيا سيطرتها على منطقة إضافية، تمتد من رأس العين إلى تل أبيض.

قد يجادل بعضهم في أن تركيا اضطرت إلى أن تكون أقرب إلى الطرف الروسي، بحكم النفوذ القوي لروسيا في سوريا، ودورها الفاعل في المجالات السياسية والعسكرية، وتحكمها بالقرار السوري، لذلك حاول الساسة الأتراك استثمار الأوضاع لتحقيق مكاسب لبلادهم، واستطاعوا من خلالها إبعاد ما يعتبرونه خطر قيام كيان معاد لهم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي. 

وجاء اتفاق سوتشي في 5 آذار/ مارس 2019 بخصوص الوضع في منطقة إدلب وما حولها، كي يمثل المعلم الأبرز للشراكة الروسية التركية، إذ بالرغم من الخلافات حولها والتوترات التي نشأت بين الدولتين، لكن تفاهماتهما مكّنت كليهما من تحقيق أهدافهما وخططهما فيها، حيث حققت روسيا إحدى أهم أولوياتها، المتمثلة في حماية قواعدها العسكرية، وخاصة قاعدتها الجوية في حميميم، وتأمين السيطرة على الطريق إم5، وأجزاء من الطريق إم 4، تأمين ممر آمن عليه لتسيير دوريات مشتركة مع القوات التركية، ما يعني أنها رابحة من الاتفاق، بحيث يمكن القول إن روسيا كانت على الدوام تستغل التفاهمات والاتفاقيات مع الأتراك لضمان توسيع نفوذها وسيطرتها على الأرض في الشمال السوري، في إطار سعيها الحثيث للتحكم والسيطرة على كامل الجغرافيا السورية. بالمقابل ضمنت تركيا سيطرتها على مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام إلى جانب وجود فصائل من المعارضة السورية فيها.

ويبدو أن تفاهمات الشراكة الروسية التركية في سوريا، ستستمر في المنظور القريب والمتوسط، كونها شهدت استثماراً كبيراً بين الدولتين، وهي مرتبطة بالنظر إلى القضية السورية بشكل عام، وتفيض إلى خارج سوريا، لتصل إلى الوضع في جنوب القوقاز ومنطقة شرقي المتوسط والوضع في ليبيا.