الشراكة التركية الروسية في سوريا

2022.05.01 | 05:54 دمشق

000_1pn14g.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أن أعادت تركيا وروسيا إصلاح علاقاتهما في أعقاب حادثة إسقاط الجيش التركي مقاتلة روسية على الحدود السورية في 2015، نشأت شراكة بين أنقرة وموسكو أعادت تشكيل خارطة الصراع الدولي على سوريا. أتاحت هذه الشراكة لتركيا التدخل عسكرياً في سوريا في 2016 ضمن عملية درع الفرات، ثم شن سلسلة عمليات عسكرية أخرى في السنوات التالية وصولاً إلى عملية شرق الفرات. كما دخلت أنقرة في منصة أستانا إلى جانب كل من روسيا وإيران في 2017، والتي أسهمت في إبرام اتفاقية منطقة خفض التصعيد الرابعة في شمال غربي سوريا. كانت الشراكة التركية الروسية مثالاً مثيراً للاهتمام على قدرة موسكو وأنقرة في التوفيق بين مصالحهما المتضاربة في سوريا، والتي امتدت لاحقاً لتشمل تعاوناً بين البلدين في المجال الدفاعي إلى جانب دخولهما في شراكات عديدة لإدارة صراعهما على النفوذ في مناطق أخرى كجنوب القوقاز وليبيا رغم أن هذا التعاون لم يخلو من صدامات في بعض المراحل. ففي سوريا، تعرضت اتفاقية خفض التصعيد الرابعة لكثير من الهزات على مدى السنوات الماضية. كما لم تمنع هذه الشراكة من بروز خلافات بين البلدين بشأن المسألة الكردية. مع ذلك، لعبت الإرادة المشتركة دوراً مهماً في الحفاظ على التفاهمات المبرمة بين الجانبين حتى الآن.

أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إغلاق الأجواء التركية أمام حركة الملاحة الجوية بين روسيا وسوريا، في حين قدمت أنقرة هذا القرار على أنه جاء ضمن اتفاق بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين

عند اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير شباط الماضي، أثار وقوف موسكو وأنقرة على طرفي نقيض في الصراع تساؤلات حول انعكاساته المحتملة على شراكتهما في سوريا. في الثامن والعشرين من فبراير شباط الماضي، فرضت أنقرة قيوداً على عبور السفن الحربية الروسية عبر مضيقي البوسفور والدردنيل من وإلى البحر الأسود بموجب معاهدة مونترو. وعلى الرغم من أن موسكو لم تعترض صراحة على الخطوة التركية، إلاّ أنها قيدت على نحو كبير من حرية حركة السفن الحربية الروسية التي تستخدم هذين المضيقين للعبور من البحر الأسود إلى البحر المتوسط والوصول إلى السواحل السورية. وفي الثالث والعشرين من أبريل نيسان الجاري، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إغلاق الأجواء التركية أمام حركة الملاحة الجوية بين روسيا وسوريا، في حين قدمت أنقرة هذا القرار على أنه جاء ضمن اتفاق بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين. مع أن تركيا لم تُقدم سبباً واضحاً لهذه الخطوة، إلاّ أنه ينظر إليها على نطاق واسع على أنها تندرج في إطار إظهار الدعم التركي لكييف من خلال حرمان روسيا من المضائق والأجواء التركية والاستفادة من وجودها العسكري في سوريا لدعم حربها على أوكرانيا.

بالنظر إلى أن هذه المرة الأولى التي تمنع فيها تركيا روسيا من استخدام أجوائها للعبور إلى سوريا منذ اندلاع الحرب السورية، وبأن أنقرة لم تربط صراحة خطوتها بالحرب في أوكرانيا، فإن إغلاق المجال الجوي يكتسب أهمية كبيرة على أكثر من صعيد. أولاً، كانت معظم الرحلات الجوية الروسية إلى سوريا تمر عبر المجال الجوي التركي وتستغرق وقتاً أقل مقارنة بمسار الرحلات التي تُنظّمها إلى سوريا عبر الأجواء الإيرانية والعراقية، ما يعني أن إغلاق الأجواء التركية سيُضفي بعض الصعوبات اللوجستية على روسيا في عملية نقل جنودها ومعداتها العسكرية من وإلى سوريا، فضلاً عن زيادة الكلفة المادية لعملية النقل. ثانياً، أبدت روسيا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا استعدادها لاستقبال مقاتلين أجانب للانضمام إلى صفوف قواتها في أوكرانيا. وذكرت تقارير عديدة أن موسكو تقوم مؤخراً بتجنيد مقاتلين في سوريا لهذه الغاية. وبالتالي، فإن قرار أنقرة سيحرم روسيا من الاستفادة من الأجواء والمضائق التركية في عملية نقل المقاتلين والمرتزقة إلى ساحات القتال في أوكرانيا. مع ذلك، فإنه من غير المرجح أن توقف القيود حركة الجنود والأسلحة والمرتزقة من سوريا إلى روسيا، حيث إن موسكو ستُحول على الأرجح رحلاتها الجوية عبر المجال الجوي الإيراني والعراقي.

يُشكل إغلاق المجال الجوي إلى جانب إغلاق المضائق تحدياً لقدرة روسيا على ضمان أنشطة قواتها في سوريا. عادة ما يتم تنفيذ عمليات الإمداد والتجديد المبكر للقوات الروسية في سوريا من خلال الرحلات المنتظمة لسفن الإنزال الروسية إلى سوريا. كانت معظم سفن إنزال الدبابات الروسية، بما في ذلك سفن أسطول البلطيق والشمال، عالقة في البحر الأسود خلال الحرب الروسية في أوكرانيا، بعد إغلاق المضائق. في ظل أن أنقرة كانت حريصة على التنسيق مع موسكو بشأن تفعيل قيود معاهدة مونترو وإغلاق الأجواء التركية، فإن ذلك يُعد مؤشراً مهماً على إدراكها لمخاطر التأثيرات المحتملة لمثل هذه الخطوات على علاقاتها الواسعة مع روسيا. على المدى المنظور ستكون روسيا قادرة على التكيّف مع القيود التي فرضتها تركيا على طرق وصولها إلى سوريا، لكنّ إطالة أمد هذه القيود ستخلق تحديات لوجستية عليها في عملية التجديد الروتينية لأصولها العسكرية في سوريا لا سيما تلك المرتبطة بالقوات البحرية على وجه التحديد، ما يجعل قدرة موسكو على إنهاء هذه القيود مرهونة بقدرتها على عدم إطالة أمد الحرب.

تأمل أنقرة أن تؤدي ضغوطها على روسيا في سوريا عبر القيود الجوية والبحرية أو في أوكرانيا من خلال تزويد كييف بطائرات مسيرة إلى دفع موسكو لتقديم تنازلات لها في مسألة الوحدات الكردية

قد تخدم الخطوات التركية إزاء روسيا أهداف أنقرة في الضغط عليها لتسهيل عملية الوساطة التي تقودها بين موسكو وكييف، لا سيما أن روسيا لا تستطيع التعايش طويلاً مع إغلاق طريق العبور لقواتها البحرية من وإلى البحر الأسود. علاوة على ذلك، ستسعى تركيا إلى الاستفادة من مشروعية الخطوات التي اتخذتها في إطار معاهدة مونترو وإغلاق المجال الجوي إلى تحقيق هدفين رئيسيين لاستراتيجيتها في سوريا. أولاً، دفع روسيا إلى التخلي عن أي خطط في المستقبل القريب لتصعيد الوضع العسكري في شمال غربي سوريا، حيث إن فتح جبهة ضد تركيا في هذه المنطقة يتطلب موارد عسكرية لن تكون متاحة بما يكفي في ضوء هذه القيود. ثانياً، تأمل أنقرة أن تؤدي ضغوطها على روسيا في سوريا عبر القيود الجوية والبحرية أو في أوكرانيا من خلال تزويد كييف بطائرات مسيرة إلى دفع موسكو لتقديم تنازلات لها في مسألة الوحدات الكردية. يُمكن النظر إلى العملية العسكرية الجديدة التي أطلقتها تركيا مؤخراً ضد حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق على أنها تمهيد لهجوم مماثل محتمل على الوحدات الكردية لا سيما أن موسكو لا تزال ترفض التعاون الجدي مع أنقرة في هذه المسألة، فضلاً عن أن التقارب التركي الأميركي الذي برز مؤخراً على خلفية الحرب الأوكرانية قد يُتيح لأنقرة هامشاً أوسع للتحرك ضد الانفصاليين الأكراد السوريين.

مع ذلك، يجب عدم التقليل من شأن أوراق الضغط الكثيرة التي تملكها روسيا في علاقاتها مع تركيا على أكثر من صعيد. على الرغم من أن الضغوط التي تمارسها أنقرة على موسكو في سوريا تبدو مثمرة إلى حد ما، إلا أن تحديد مدى فعاليتها يتوقف على عامل الوقت أولا، ثم قدرة روسيا على التكيف لفترة أطول مع إغلاق البحر الأسود بوجه نشاطها العسكري في سوريا. مع ذلك فإن حقيقة أن روسيا أضحت لاعباً رئيسياً في الصراع السوري وستسعى لجذب الانفصاليين الأكراد إليها بشكل أكبر فيما لو تخلت واشنطن عنهم، فإنه سيتعين على تركيا توظيف هذا الضغط في سبيل تقوية أوراقها التفاوضية مع روسيا بما يخلق توازناً في الشراكة بين البلدين في المسألة السورية. على مدى السنوات الماضية، أثبتت براغماتية كل من أردوغان وبوتين قدرتها على تجاوز العقبات التي اعترضت استمرار شراكتهما في سوريا. في الوقت الراهن، ما تزال هذه البراغماتية قادرة على المضي قدما، لكنها ستصبح أكثر ارتهانا بقدرة البلدين على إدارة خلافاتهما بشأن أوكرانيا فيما لو استمرت الحرب لفترة أطول.