السويداء في المعادلة الوطنية: لا أَحكم ولا أُحكم!

2022.12.13 | 06:26 دمشق

انتفاضة السويداء – امتداد لثورة كرامة ووطن
+A
حجم الخط
-A

يقول هيروديت إنه في القرن السادس ق.م. اختلف أوتانيس وداريوس على طبيعة نظام الحكم في بلاد فارس، فالأول يريد سيادة القانون من خلال نظام حكم شعبي جمهوري يصفه بأنه: "عندما يكون الشعب هو الحاكم، يكون لقبه في المقام الأول أعدل الجميع، والمساواة أمام القانون ثانياً، لذلك لنلغي الملكية ونزيد من سلطة الشعب؛ ففي الكثير يكمن كل شيء". بالمقابل أراد داريوس نظام حكم ملكي تدار من خلاله شؤون البلاد وفق نظام الملكيات العامة والإقطاعات الزراعية. وحين رجحت كفة درايوس في الحكم، اتخذ أوتانيس موقفًا عاقلًا ندر مثيله في التاريخ قائلًا: "لا أَحكم ولا أُحكم".

خلاصة عقلانية ذات بصيرة وازنت بين الكبرياء والأحقية والتواضع، منعت التمرد ونزعت مبررات الاقتتال الداخلي، وأقامت الاستقرار رغم معارضة طريقة الحكم، فهل ستمثل قاعدة "لا أَحكم ولا أُحكم" نموذجًا لأبناء السويداء في جبل العرب ما لم تحل المسألة السورية حلًا عادلًا، أو إذا ما بقيت السويداء عرضة لمحاولات الإخضاع العسكرية المتغولة؟

سؤال موضوعي تثبته الوقائع الراهنة، له ما بعده لمجريات الحدث السوري العام، وذو كلفة باهظة تاريخياً ومعاشياً وبالنتيجة سياسياً على أبناء هذه الأقلية. فالحالة السورية العامة تجتاحها الكوارث من كل صوب: استعصاء سياسي وتنازع جيوبوليتيكي دولي وإقليمي على فرضيات حلها المتباينة، تدهور عام في الواقع المعاشي، وتعميم الفساد الأمني والمالي وترهل أجهزة الدولة القائمة ومؤسساتها الخدمية؛ والنتيجة لا حلول ممكنة تقدمها السلطة السياسية الحالية. كما لا توجد مؤشرات لتفعيل مقررات جنيف ومجلس الأمن مع ضعف مبادرات المعارضة السورية، ما يهدد الهوية الوطنية السورية بالتشظي السياسي بعدما أصابتها الفوالق المجتمعية والطائفية. والسويداء ليست استثناء عن عموم سوريا رغم تمتعها ببعض الميزات الخاصة مجتمعياً.

لأيام خلت، وللمرة الثانية منذ تموز هذا الصيف، تُقدم السويداء على كسر هيمنة السلطة السورية المفترضة عليها، وتظهرها بمظهر المفلس كلياً سياسياً واقتصادياً، فرغم أنها ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها أبناء السويداء ضد السلطة القائمة في دمشق، فهي وإن كانت مظاهراتها متقطعة طوال السنوات السابقة، لكنها لليوم مستمرة في التعبير عن رفضها للهيمنة الأمنية والسلطوية وسياسات التجويع وامتهان كرامة الناس خلافاً لكل مناطق سيطرة السلطة السورية.

أظهرت السويداء ما يمكن أن يدرج تحت عنوان الضربات القاسية والموجعة التي يصعب الرّد عليها من قبل سلطة النظام، إذ لا يمكن اتهامها بالإرهاب كتهمة شائعة على بقية السوريين..

فقد أظهرت السويداء ما يمكن أن يدرج تحت عنوان الضربات القاسية والموجعة التي يصعب الرّد عليها من قبل سلطة النظام، إذ لا يمكن اتهامها بالإرهاب كتهمة شائعة على بقية السوريين. ففي تموز اقتلعت السويداء أخطر مشروع للهيمنة على المنطقة الجنوبية في السويداء وتحويلها لممر للمخدرات، حين قرّرت وبقرار أهلي، اقتلاع رأس حربة المشروع الإيراني الأمني الميليشاوي فيها، المعروف بحركة الفجر ومتزعميها من مارقي أبناء السويداء أنفسهم. واليوم تظهر مظاهراتها السلمية رفضها الكلي لسيادة سلطة النظام فيها، دون أن تطرح مشروعًا انفصاليًا درزيًا فلا تحكم، وبالوقت ذاته ترفض هيمنة الميليشيات والسلطة الأمنية السياسية السورية عليها فلا تُحكم!

السويداء وسكان جبل العرب، ورغم قلة وضعف الموارد المادية والمشاريع التنموية، وتهميشها المحلي سواء من السلطة أو المعارضة، وتهميشها إقليمياً ودولياً من أية مبادرات اقتصادية أو سياسية، إلا أنّ مناخها الاجتماعي والديني والمدني المعتدل قابل لأن يشكل بيئة سياسية تتسع لكل السوريين، خاصة في مسار السلام والاستقرار وحوار الأديان والحوار الوطني والتعاقد المجتمعي وردم التصدعات التي أصابت الهوية الوطنية.

وهذا ليس فرضاً نظرياً كما مشاريع الانفصال أو الإدارة الذاتية التي لا تمتلك مقوماتها المادية مقارنة بشرق الفرات، وتمثل حلماً واهياً لبعض سياسيي المرحلة الحالية من سوريا. بل بالعكس أثبت سياق الأحداث في السويداء عمقها الوطني المتمسك بالهوية السورية، دحضًا لما يروجه إعلام السلطة من تهم العمالة لإسرائيل والخارج.

هل يمكن للسويداء اليوم أن تكون محط أنظار السوريين للبدء بمشروع حل وطني يتجاوز عقده الدولية واستعصاءاته السياسية؟ سؤال جدلي وفرضياته قد تتُهم بالغزل أو المحاباة، لكن مجموعة السمات العامة التي قدمتها السويداء طوال الفترة الماضية تقول: ترفض القتل، فقد حرمت الدم السوري، ودلائله انسحاب غالبية أبنائها من الخدمة الإلزامية والتزامها الحياد تجاه المقتلة والحرب السورية، خاصة المنفلتة من عقالها بعد 2013. ذات اعتدال ديني ومجتمعي، لا تفرض دينها حتى على أبناء جلدتها ولا تبشر به لخلافها، وتدعو للحوار والسلم والسلام. ولليوم تبدي ممانعة قوية للانزلاق للمشاريع الطائفية المحلية أو الرضوخ للهيمنة السلطوية القائمة.

الفرضية الحالية، إذا ما أخذت بعين الجدية، ودرست بعمق، فإنها ستقدم ما يمكن أن يدعم السويداء وبيئتها الاقتصادية مادياً، وتحفيز قواها السياسية والمدنية، والاعتناء بتوجهاتها الأهلية والدينية والعسكرية ذاتية الحماية بعيداً عن شبهات التوظيف السياسي والاستئثار السلطوي بالحكم سواء سلطوياً أو بديلها المفترض من المعارضة أو المشاريع الإقليمية والدولية. حينها يمكن للسويداء أن تلعب دورًا إيجابياً في المعادلة الوطنية السورية، خلاف تهميشها المتعمد سلطوياً وإقليمياً ودولياً لليوم.

فمقدمات أي مشروع وطني يستهدف الكلية السورية والتعاقد المجتمعي العام يبحث نظرياً في اللامركزية الإدارية وحقوق المواطنة المتساوية، وتحييد غلو المشاريع السياسية والدينية أو الطائفية وحيدة الاتجاه، والحقوق الدينية المتوازية، وجماعها ترجمة لمفهوم حيادية الدولة ومؤسساتها الإدارية والخدمية عن تغول سلطات السياسة والعسكر والدين، وهو ما يبحث عنه السوريون ومنهم أبناء السويداء وبشكل حيوي واضح اليوم. ففي الكثير يكمن كل شيء ممكن وقابل للتحقق.

وفقاً لسير الحدث العام في السويداء وسوريا عامة، لا يمكن أن تحتمل السويداء حسم خيار خوض غمار مواجهة عسكرية كبرى مع السلطة القائمة تكون كلفتها البشرية والوطنية كبيرة. ولا يمكنها، بمقوماتها المادية القائمة، أن تخطو بخطوات سياسية واسعة سواء بالرضوخ للسلطة القائمة أو البحث عن مشاريع انفصالية طائفية تستعدي محيطها الحيوي العام. لكن يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في المعادلة الوطنية السورية إذما وجدت الأيادي الوطنية السورية تمتد لها حوارياً وقيمياً ومادياً كما فعلتها الكتلة الوطنية الدمشقية متمثلة بعبد الرحمن الشهبندر حين امتدت لسلطان الأطرش ورفاقه الشعبيين في عام 1925 تحت شعار: الدين لله والوطن للجميع.

المؤكد أن أبناء هذه الأقلية ينظرون بعين التطلع والترحيب لحوار وطني ومجتمعي تعاقدي، مشروط بضمان الاستقرار والأمان، ومقترن مع تحقيق الحقوق المدنية المتساوية لكل السوريين والإقرار بالحقوق الإيمانية المتوازية لكل مكونات سوريا الأهلية والدينية..

فالمؤكد أن أبناء هذه الأقلية ينظرون بعين التطلع والترحيب لحوار وطني ومجتمعي تعاقدي، مشروط بضمان الاستقرار والأمان، ومقترن مع تحقيق الحقوق المدنية المتساوية لكل السوريين والإقرار بالحقوق الإيمانية المتوازية لكل مكونات سوريا الأهلية والدينية. وهذا شرط أساسي في التغيير السياسي المفترض سوريّاً والذي أوصت به قرارات الأمم المتحدة ومجلس أمنها، والذي ما زال لليوم لعبة بيد الدول الكبرى لا يجد مقومات أحداثه في الواقع، والواقع السوري بسلطته الحالية ومعارضته السياسية غير قادر على تحريك مفاعيله، فهل يمكن للسويداء بحكم الواقع والجغرافيا والتاريخ أن تفعّل أبجدياته؟

لليوم، يتعامل أبناء السويداء بحذر وريبة مع المشاريع السياسية والعسكرية الخارجية، ومع هذا هم منفتحون على جميع المبادرات العامة التي تستهدف المصلحة المحلية والوطنية والاستقرار والسلام في عموم سوريا. ويتطلعون بحرص وجدية لتفعيل إمكانيات الواقع السوري الداخلي باتجاه الحل العام في التغيير الديموقراطي وإنهاء سياسات التغوّل السياسية والدينية المتطرفة من كل الجهات، فهل يمكن تجديد فاعليتها واقعياً وسورياً في ثورتها المكلومة لليوم؟