السوريون والهجرة

2021.01.08 | 00:11 دمشق

thumbs_b2_e5b8130b453fefcbef4ce948e8bf8012.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن في تاريخ سوريا موجات هجرة كبيرة ومتعددة، أولى أكبر الهجرات ( الشامية) نسبة إلى بلاد الشام، كانت أيام الاحتلال العثماني للمنطقة، بسبب الأزمات الاقتصادية التي عاشت فيها المنطقة، وبسبب (السفر برلك) الذي كان يحمل معه شباب ورجال بلاد الشام بلا عودة، واستمرت الهجرات بشكل متواتر وبأعداد قليلة، كانت أميركا الجنوبية هي الوجهة الأساسية، التي شهدت هجرات لاحقة للسوريين بعد الحرب العالمية الثانية، وتليها الولايات المتحدة الأميركية، ومصر التي كانت وقتها مركز الإشعاع العربي، وأكثر ما شهدته هذه الهجرات هي هجرة المثقفين (كتاب، صحفيون، صناع سينما، فنانون.. إلخ)، ومع الانتداب الفرنسي هاجر بعض السوريين إلى فرنسا، ثم كان الخليج هو مقصد الهجرة عند بدء ظهور النفط والانتعاش الاقتصادي الذي ظهر في دول الخليج، وحملت أحيانا بعض الهجرات طابعا دينيا، خصوصا في زمن الحكم العثماني، حيث هاجر العديد من المسيحيين إلى أميركا وأوروبا، أو كهجرة يهود سوريا بعد نشوء دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، والتشدد العقائدي ضد اليهود الذي ظهر واضحا لدى الأنظمة العسكرية العربية، التي خسرت كل حروبها مع إسرائيل، ولدى الأحزاب القومية التي ربطت عامدة بين اليهود والصهيونية، كالحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث، وكالأحزاب الراديكالية الإسلامية (الإخوان المسلمون).

وبسبب محدودية تلك الهجرات قلما شكل السوريون ظاهرة كجالية متميزة في البلدان التي هاجروا إليها، لا على المستوى العلمي ولا الفكري ولا حتى الاقتصادي، كان التمايز فرديا لا جمعيا، حتى من عاد منهم إلى سوريا لاحقا، لم تشكل عودته إضافة نوعية لا للاقتصاد ولا للعلم إلا ما ندر، ولعله من قبيل الطرفة أن نذكر أن أهم ما أحضره معه العائدون من هجرتهم إلى أميركا اللاتينية هو مشروب (المتة)، وهو نبتة شبيهة بالشاي الأخضر، موطنها هو دول أميركا الجنوبية، ولها طقوس خاصة في طريقة شربها، وقد انتشرت في سوريا في منطقة القلمون وجبال الساحل السوري وجبل العرب، وهي أكثر المناطق السورية التي شهدت هجرة إلى أميركا الجنوبية؛ وثمة أمر آخر ملفت بموضوع الهجرة إلى أميركا الجنوبية، قسم كبير ممن عاد إلى سوريا من المهاجرين اشتغل في مهنة الإسكافي، أذكر في طفولتي أنه كان هناك ارتباط كبير لدي بين الإسكافي وفنزويلا، إذ إن معظم أصحاب هذه المهنة عاد من فنزوبلا، أتحدث طبعا عن مهاجري جبال الساحل السوري الأوائل إلى تلك البلاد، الذين هاجروا بسبب الفقر، وعادوا بسبب الفقر، وما من مهنة تعلموها سوى تلك المهنة.

لم تظهر الهجرات ( السياسية) بمعناها الحرفي إلا في زمن حكم البعث وحافظ الأسد، حيث هرب المعارضون السوريون ممن نجوا من الاعتقال، أو بعد خروجهم من المعتقلات، إلى دول العالم المتفرقة، الشيوعيون ( حزب العمل الشيوعي والمكتب السياسي) هربوا إلى أوروبا في معظمهم، وإلى بعض الدول العربية، والجناح العراقي من حزب البعث هاجروا إلى العراق، والإخوان المسلمون إلى بريطانيا تحديدا ودول الخليج بطبيعة الحال.

أيضا كانت تلك الهجرات محدودة، وقليلة العدد، وكسابقاتها، لم تشكل ظاهرة يمكن الحديث عنها، ورغم أنه قبل 2011 كان عدد السوريين الذين في دول المهجر كبيرا جدا، ( لوحظ هجرة الأدمغة بشكل كبير بعد 1980 بسبب هيمنة الدولة الأمنية الشمولية على كل مفاصل الحياة في سوريا)، إلا أن ذلك أيضا لم يجعل من سوريي المهجر يشكلون حالة جمعية يمكن للمجتمع السوري الاستناد إليها، كل شيء يخص السوريين، حتى في الخارج، كان يشبه الحالة التي كرسها النظام السوري في المجتمع، الخوف من السوري الآخر ومحاولة التميز بعيدا عن أي فعل جماعي.

بعد 2011 أخذت الهجرة السورية من لجوء ونفي وهروب، شكلا  آخر مختلفا كليا، أصبحت هجرة جماعية، من مختلف الأجيال والأجناس والأعراق والانتماءات

بعد 2011 أخذت الهجرة السورية، من لجوء ونفي وهروب، شكلا  آخر مختلفا كليا، أصبحت هجرة جماعية، من مختلف الأجيال والأجناس والأعراق والانتماءات، وإلى كل مكان مفتوح للسوريين، أو يمكن أو يكون مفتوحا، وصل السوريون فعلا إلى آخر الأرض، يندر أن يوجد بلد في العالم لم يذهب إليه ولو سوري واحد في هذه الهجرة / اللجوء الذي يعتبر واحدا من أكبر حالات اللجوء في العالم في التاريخ الحديث، وعلى عكس الهجرات السابقة لا يبدو أن ثمة احتمال لعودة اللاجئين والمهاجرين إلى أرض الوطن، إذ لم يتبق وطن يمكن أن يتسع لهم، لا على المستوى النفسي المعنوي ولا على المستوى المادي اللوجستي، فعدا عن دمار أكثر من سبعين بالمئة من سوريا، بحيث لا أمكنة يعود إليها المهاجرون فإن باقي أسباب الهرب واللجوء مازالت قائمة، بل زادت عليها أسباب إضافية، فإذا كانت الحرب بشكلها الذي كانت عليه قد توقفت فأثارها المهولة مازالت موجودة، الدمار والانقسام والاحتلالات، والنظام الذي لم يتغير قيد أنملة، والاعتقالات والاغتيالات والفساد الذي أصبح أكثر فجرا، والشبيحة والسلاح المنتشر والعصابات والسرقة والقتل، يضاف إلى كل ذلك التردي المهول في الأوضاع الاقتصادية وفقدان المواد الأساسية للعيش، والفقر المدقع الذي يزداد يوما بعد يوم، وحالة اليأس الكاملة التي وصل إليها السوريون، والقهر والذل الذي تمارسه أجهزة النظام ومؤسساته على السوريين، والتطرف بأشكاله المتعددة، وضياع القيم الأخلاقية، والانعدام المطلق لحقوق الإنسان، كل الأسباب التي قامت الثورة لأجلها تضاعفت مرتين أو ثلاثة حاليا، هذا بحد ذاته يمنع كثيرا من السوريين من التفكير بالعودة رغم كل الحنين الذي يظهرونه على وسائل التواصل، عدا عن أن الجميع يبدو مستقرا حيث هو، ولا أظن أن أحدا بوارد التخلي عن امتيازات لم يعرفها طيلة حياته من أجل العودة إلى بلد متآكل ودولة فاشلة ومحتلة من عدة أطراف.

ورغم كل ما يبديه كثير من السوريين من حالة حنين وشوق إلى سوريا، والتشكي من الوحدة وعدم القدرة على الاندماج، ورغم حاجز اللغة الذي يشكل العقبة الأولى أمام الاندماج، ورغم الصدمة (الحضارية) التي أصابت كثيرين إثر وصولهم إلى دول أوروبا، وعدم قدرتهم على استيعاب الاختلافات المذهلة بين المجتمع السوري المحافظ والمجتمع الأوروبي والغربي المنفتح إلى الحد الأقصى، رغم كل ذلك فإنه من العدل أن يشعر السوريون اللاجئون بالامتنان لما هم فيه، ليس فقط للأمان الذي يعيشون فيه واحترامهم واحترام حقوقهم كما لو كانوا مواطنين أصليين في تلك المجتمعات، بل أيضا لأجل مستقبل أبنائهم، والخبرات التي ستراكمها أجيال وصلت بلاد الغرب في سن مبكرة، أو ولدت هناك، سوف تنشأ هذه الأجيال على معنى جديد للإنسانية لم يتح لأسرهم أن تعرفه يوما، سوف يعرفون مفهوم المواطنة بوصفه شيئا ملموسا لا شعارا يقال في المناسبات والجرائد، سوف يتاح لهم أن يكونوا جزءا من مجتمعات غنية ومتنوعة ومواطنين لأوطان منجزة وناجحة ومحترمة، سوف يتاح لهم أن يقارنوا بين العلم والغيب دون ضغط مجتمعي، سوف يحظون بتعليم محترم وبعدالة ومساواة في كل شيء، سوف يتاح لهم أن ينشؤوا دون خوف، لا خوف مجتمعي ولا ديني ولا سلطوي ولا أبوي، والأهم بلا خوف من الآخر، سوف تفتح أمامهم عوالم جديدة لا تتاح لسكان هذا الشرق البائس.

هذه الامتيازات مع القدرة على التأهيل العلمي والفكري، مع الأعداد الكبيرة التي يمكنها الآن أن تشكل ظاهرة يعتد بها، قد يتاح لسوريا في المستقبل أن ترفد بهذه الأجيال التي نشأت بعيدا عن أجواء الحرب وآثارها النفسية المدمرة، قد يكونوا هم الحل الوحيد  لبناء مستقبل سوري ذات يوم، هذا يستلزم بداية دفع العائلات السورية بأبنائهم ليكونوا عناصر فاعلة في المجتمعات الجديدة، ويستلزم التخفف قليلا من التفجع والتشكي والحنين، إذ إن هذا التشظي لا يفيد لا أصحابه ولا سوريا، ما يفيد هو استغلال الوضع الجديد للسوريين في دول اللجوء والمهجر والاستفادة من المزايا المتاحة إلى أقصى حد، في اللغة والعلم والطب وكل شيء، ومحاولة تشبيك متواصلة بين السوريين في هذه الدول لإيجاد نواة لمستقبل سوريا، نواة جديدة لا تشبه كل ما حصل في السنوات العشر المنصرمة وفي السنوات العشر القادمة، إذ لا يبدو أبدا أن ثمة أمل في الأفق، فالخراب السوري كان أكثر تركيبا وتعقيدا من أن تفككه سنوات عشر من الثورة والحرب، يحتاج لتفكيكه ظهور أجيال جديدة بذاكرة متخففة  أو خالية من أثر ما حدث كله.