السوريون والعقدة التركية الجيوبوليتيكية

2023.01.04 | 05:49 دمشق

السوريون والعقدة التركية الجيوبوليتيكية
+A
حجم الخط
-A

أثارت التصريحات التركية الأخيرة إزاء الملف السوري جملة من المواقف السورية المتباينة. في أوجه هذه المواقف موجات الغضب المتعالية المترافقة مع مظاهرات كبيرة في الشمال السوري، وبيانات استنكار كبيرة من بعض القوى السورية المعارضة، فيما خيم الصمت على المعارضة السورية الرسمية ممثلة بالائتلاف والحكومة المؤقتة، أما سلطة دمشق الرسمية فتبدي فتورًا سياسيًا إزاءها مع تصريحات مواربة بعدم رغبتها في المصالحة أو اللقاء الرسمي على مستوى رؤساء الدولتين رغم دخولها في التفاوض الأمني والعسكري مع نظيرها التركي برعاية روسية.

لليوم، ورغم التصريحات العلنية متعددة الأوساط برغبة تركيا رسميًا بتسوية ملف صراعها مع سلطة النظام السوري، لكن لا دلالة واضحة على ترتيبات الغرف السرية بأي تجاه تذهب، ما يطرح جملة من التساؤلات القابلة لأن تكون بوابة مفتاحية لقراءة الموقف التركي: هل هي جادة في تسوية الملف السوري وإعادة الأراضي التي تسيطر عليها والمصالحة الرسمية مع سلطة دمشق، رغم تصريحاتها الرسمية ومواقفها الطويلة المعادية لسلطة النظام والمعترفة بحق الشعب السوري؟ وهل ستتخلى عن عمليتها العسكرية على طول الشريط الحدودي في مناطق نفوذ قسد؟ وما دور كل من أميركا وروسيا في هذا الملف المعقد؟ وأين إيران من مجريات اللقاءات التمهيدية الثلاثية التي استثنيت منها هذه المرة وبرعاية روسية؟

إذا كانت تركيا جادة بهذا الطرح فستخسر أوراق ضغطها الجيوسياسية في المعادلة الإقليمية والدولية من خلال البوابة السورية

تأتي تصريحات مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، وأحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ورئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا التركي، ذات صيغة مربكة ومثيرة لغضب السوريين. إذ صرح عن استعداد تركيا لنقل سيطرة المواقع الموجودة فيها في سوريا إلى دمشق وسلطة النظام فيها، وضرورة تأمين عودة اللاجئين السوريين لبلادهم بشكل آمن. ويبدو أن التصريح يخفي أمرًا ما خلفه، فأي عين سياسية تدرك أنه إذا كانت تركيا جادة بهذا الطرح فستخسر أوراق ضغطها الجيوسياسية في المعادلة الإقليمية والدولية من خلال البوابة السورية. ما يعني أنه تصريح لا يحتمل الجدية السياسية إلا إن كانت هناك صفقة ما على روسيا وسلطة النظام تقديمها بمقابل وزن هكذا طرح. والسؤال المطروح إذا هل من صفقة تحاك في الغرف الخلفية للمشهد السوري الحالي؟

في الخلفية، وقعت تركيا في المسألة السورية موقع العقدة الدولية في تشابك ملفاتها الناتجة عنها. فهي التي احتوت وتحتوي على ما يقارب 4 ملايين سوري لاجئ على أراضيها، وتقوم بدور الحماية والوصاية على مناطق إدلب وشمالي حلب التي تضم نحو 3.5 ملايين سوري بين ساكن أصلي ومهجر من جميع مناطق المدن السورية التي كانت لغاية 2018 مناطق خارج سيطرة النظام. وتركيا أيضًا المنسق الرسمي في ثلاثية أستانا بجانب إيران وروسيا في ترسيم ملفات وقائع الأرض السورية، كأهم القوى الفاعلة عسكريًا فيها، بعدما كانت على مقربة من افتعال أزمة مع روسيا بداية حملتها العسكرية على سوريا عندما أسقطت طائرة روسية، لتصبح اليوم المنسق الرسمي معها سياسيًا في شتى ملفات الحل السوري، وتلعب دور الوسيط في الحرب الروسية على أوكرانيا. أضف لجملة معقدة من المشاكل السياسية التي دخلت بها تركيا مع قسد شرق الفرات ومن خلفها أميركا، ومع أوروبا والدول العربية، ما جعلها تخسر معادلة "الصفر مشاكل مع جيرانها" لعقد سابق.

تركيا تتفق جزئيًا مع كل من روسيا وأميركا، تنسج مصالحها مع الطرفين بطرق متوازية لا تحتمل العداء لأي منهما، وتحاول إيجاد مكان مميز لها في الخارطة الدولية

في المسألة السورية، تبدت بوضوح معالم الأدوار الدولية الجيوبوليتيكية التي رسمتها روسيا بدءًا من سوريا وصولًا لقلب أوروبا اليوم. فمع الجيوبوليتك تنتفي الأيديولوجيا وتتقدم المصالح ومفاهيم المحيط الحيوي وترسيخ دوائر علمها حسب قدرة وإمكانية الدول العاملة به. فكيف إذا كانت دولة كتركيا تقع بين عزمي مزدوجة الجيوبوليتيك العصري: من جهة النظام العالمي المعولم بقيادة أميركا ومن خلفها حلف الناتو، ومن جهة أخرى روسيا ومن خلفها أوراسيا، وهذه المنظومتان على اختلاف حاد بين مشاريع كل منهما الدولية.

تركيا تتفق جزئيًا مع كل من روسيا وأميركا، تنسج مصالحها مع الطرفين بطرق متوازية لا تحتمل العداء لأي منهما، وتحاول إيجاد مكان مميز لها في الخارطة الدولية من خلال ملفات المنطقة. والأهم من هذا تحاول استعادة سياستها صفر مشاكل مع الجيران ودوليًا، وتعمل على إرضاء الشارع التركي خاصة المعارض لسياسة حزب العدالة والتنمية ولوجود السوريين في تركيا، وتعمل على كسب الانتخابات المقبلة، وبالوقت ذاته تسعى لكسب حلفائها والمؤيدين للسوريين وحقهم في التغيير السياسي. وبالقدر ذاته تسعى تركيا لتحجيم دور وفعالية القوى الكردية على حدودها الجنوبية ولا تريد إثارة غضب أميركا فيه، ولا إثارة غضب روسيا بالمقابل.