السوريون بين النجاة وسلوك الضحية

2021.11.24 | 05:15 دمشق

mastr2.jpg
+A
حجم الخط
-A

نحن بخير، على الرغم من أننا تشرذمنا في دول العالم، بعضنا قد ترك بقايا من أجساد عائلته تحت الركام في سوريا قبل أن يهرب باتجاه المجهول، وبعضنا هرب من دون أن يتلقى خبراً عن أفراد عائلته المفقودين، لكننا بخير.

كيف تسير الحياة؟

كل شيء على ما يرام توقف كثير منا عن مشاهدة نشرات الأخبار، نلتقي في عطلات نهاية الأسبوع مع الأصدقاء والأقارب ونناقش مستجدات الأزمة الاقتصادية العالمية، نشتم الأنظمة الرأسمالية ثم نعود إلى منازلنا ننعم بالدفء.

أصبحت مشاهد المنازل المهدمة في غرف الذاكرة الخلفية، ولا نكذب إذ نقول إنها قد تتماهى قريباً في غياهب النسيان.

لكن ذلك كله قد ينتهي في آخر الليل ونحن نستعيد مجريات يومنا قبل أن تسقط رؤوسنا على الوسائد وتغط في سبات عميق.

إن الإنكار هو أسوأ مراحل العلل النفسية التي قد تعيق العلاج، لكننا جميعاً نعتقد أننا من القوة التي قد تجعلنا نتجاوز المرض الذي يحيق بنا

قد يعبر بعضنا بالبكاء وبعضنا الآخر بالغضب أو قد نتجه للتعبير نحو الفن والأدب لكننا نشترك جميعاً في حقيقة الحكاية وأصلها، لقد نجونا من المقتلة وكفى بذلك انتصاراً للحياة، أو ربما هكذا يطيب لنا الاعتقاد.

إن الإنكار هو أسوأ مراحل العلل النفسية التي قد تعيق العلاج، لكننا جميعاً نعتقد أننا من القوة التي قد تجعلنا نتجاوز المرض الذي يحيق بنا.

أثار تلك الفكرة لديّ حديثي مع صديقة كانت تتمنى لو أنها لم تنجُ من المقتلة في البلاد ولو أنها لحقت بركب الشهداء، كي لا ترى الحال الذي وصلنا إليه اليوم لأنها ترى أنهم دفعوا حياتهم ثمناً باهظاً للا شيء الذي نعيشه حالياً.

هل نجونا حقاً؟ من جهتي لا أعتقد ذلك، بل وأعتقد أننا نعيش مرحلة أسوأ مما يمكن أن نتخيله، ذلك أن أغلبنا ينكر ذلك ولا يعلم أنه يفعل، بل نعتقد أننا بقوتنا الخارقة تمكّنا من تجاوز الآلام والصدمات.

قد يختلف ذلك مع فكرة أن السوريين شعب حيّ وقادر على التأقلم ويستطيع النجاح على اختلاف الأوساط التي قد يرى نفسه مُقحَماً فيها، لكن ذلك لا ينفي أننا ما زلنا جميعاً نعاني من تصدّعات نفسية وجسدية تمنعنا من أن نكون بشراً طبيعيين.

تذهب فئة من السوريين إلى أن في ذلك مجافاة للحقيقة وإنكاراً للنعمة بأن نكون ما زلنا حتى الآن على قيد الحياة وأننا نعاني من تماهٍ شديد مع سلوك الضحية، وأنه يكفي أننا لم نمت لنكون محظوظين بالهروب من الموت بشكله الفيزيائي وأن نغتنم الفرصة التي منحتنا إياها الحياة من جديد.

لكن أليس في ذلك مجافاة للحقيقة أيضاً؟ ألا يعيش جزء يسير من السوريين ويتابعون حياتهم بمساعدة مضادات الاكتئاب؟ أليس الاكتئاب علّة حقيقية وإن لم تكن مرئية أو ملموسة، مثل الشلل أو مرض القلب أو السرطان؟

ألم يختبر كثير من السوريين هذا المرض فشَلّ حركتهم عن متابعة الحياة واضطر العارفون منهم إلى اللجوء للعلاج النفسي والاستعانة بالأدوية التي تجعل من الإنسان شبه مخدّرٍ تجاه تفاصيل الحياة.

لن أذهب بالفكرة بعيداً، بل سأفكر فقط في تصدّر خبر تجارة المخدرات في سوريا لكثير من مجريات الأحداث، لا يعنيني هنا الحسابات السياسية في ذلك بقدر ما يعنيني أن التعاطي لم يكن معروفاً في سوريا قبل أن تصبح البلاد مصيدة للموت فيلجأ إليه السوريون هرباً من آثار الحرب الجانبية وكأنهم يتعاطون مسكنات تساعد على النسيان.

لا يمكن التفريق هنا ربما بين من اضطر إلى البقاء في البلاد وبين من استطاع الفرار إلى خارجها، لكنه حمل مرضه معه ولم يجد من العقارات الدوائية ما قد يستطيع أن يضمد به جراحه، فاختار صمّ قلبه وذاكرته وقطع الدارة بينهما وبين عقله كي يستطيع الاستمرار ومجاراة هذا العالم.

هل نسمّي ذلك نجاة إذن؟ وإذا كانت كذلك فهل في ذلك خيانة لمن مات في سبيل القضية أو للمفقودين الذين بدأت أسماؤهم تصبح طيّ النسيان؟ أم للذاكرة والأماكن المعرّشة فيها واللقطات والأحلام؟

الحقيقة أن من يمكن أن يطلق عليه اسم الناجي هم الأطفال الذين لم يرَوا شيئاً من ويلات الحرب أو لم يعاصروا فترة الحكم الهمجي في سوريا

النجاة حلمنا جميعاً لذلك نتعلق بكل قشة قد تربطنا بالحياة من عمل أو حبّ أو قضية، لكننا كي ننجو علينا أن ننفصل عن أنفسنا ونخلق كائناً جديداً، أو أن نخضع لعلاج طويل يكون مفعوله طويل الأمد كي نحسن التعامل مع العالم، الحقيقة أن من يمكن أن يطلق عليه اسم الناجي هم الأطفال الذين لم يرَوا شيئاً من ويلات الحرب أو لم يعاصروا فترة الحكم الهمجي في سوريا أو الذي لم يُسجّل نزوحهم على أنه مجرد أرقام ونتائج جانبية للاقتتال، أولئك من كان لهم من الحظ أن يولدوا ويعيشوا في بلدان ليست مبنيّة على الخراب.

أما نحن فلسنا سوى تلك الحلقة التي يجب أن تنكسر لا محالة كيف تفصل بين جيلين، جيل تعايش مع الاستبداد وخضع له، وجيل جديد لا يمكن إلا أن يؤمن بحقوقه ويعرف أن من واجبه الدفاع عنها لتكون مهمتنا فقط هي إنقاذ جيل أبنائنا، وربما هذه هي الشجاعة والنجاة الحقيقية.

كلمات مفتاحية