السوريون بين العنصرية والتضخم الذاتي

2020.11.15 | 23:02 دمشق

06-7.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقول الخبر إن لاجئاً سورياً قُتل طعناً بالسكين، أمام ولده، في إحدى مدن الهجرة. بعد أن تضغط لقراءة المزيد، كما فعلتَ هنا الآن على الأرجح، يتابع التقرير القصير عرض تفاصيل الحادثة، قبل أن يخبرك، في نهاية المطاف، أن الجاني سوري آخر. ولكن ما الذي يهم؟! لقد حصلت وسيلة الإعلام منك على مبتغاها، الـClick أو النقرة. وهي العملة المتداولة في عالم المواقع وسوق القراءات. ولو جاء الخبر واضحاً منذ البداية، بصيغة شجار بين سوريَّين، فلن يثير اهتمامك في الغالب، وستتجاوزه سريعاً في زحمة الإعلام.

هل هو ذنب المواقع الإخبارية ومروجيها إلكترونياً؟ جزئياً فقط. فهؤلاء تابعون لرغبات الجمهور. يتنافسون في التقاط ما يمكن أن يشكّل عنده خبطة صحفية أو عنواناً مثيراً، أو Trend بلغة محركات البحث.

بعد أن هدأت المعارك الكبرى في سوريا حالياً، وتكررت أخبار القصف المتناوب على قرى إدلب، أو الاغتيالات المتنوعة في درعا، وبعد أن مل جمهور الثورة من عرض مظلوميته من النظام على العالم؛ تحول هؤلاء إلى الشكوى من العالم نفسه بعد أن أصبح قريباً. فحين لم يأتِ، متدخلاً بطريقة ما لوقف المقتلة؛ توافدوا إليه زرافات ووحداناً، متسللين عبر الحدود وراكبين البحر بمراكب خطرة. وهم حانقون غاضبون فقراء يعانون سوء التكيف ويحسَبون كل صيحةٍ عليهم. وكانت صيحة اليوم هي العنصرية التي رفّعوها إلى رتبة ترند متجدد.

من حسن حظ السوريين أن هجرتهم الجماعية المهولة حدثت في وقت تراجعت فيه مستويات العنصرية إلى أخفض معدلاتها تاريخياً. وإلا من كان يتخيل الترحيب الألماني باللاجئين منذ ثلاثة أرباع قرن، عندما كانت العنصرية المنظمة عنوان حكم هذا البلد وموضع إيمان معظم أهله خلال الحقبة النازية وتنويم هتلر المغناطيسي؟ هذا مثال صارخ بلا شك. لكن الثابت أن النزعات العنصرية تتراجع عالمياً، وتنحسر إلى أحزاب ثانوية وبعض رموز المتعصبين الكارهين الكريهين. لم تنته هذه التوجهات، وربما لن تنقرض أبداً، غير أن تحولها إلى أفكار مستهجنة في مجتمعاتها وسلوكيات مدانة في قوانين دولها خبر جيد.

لا يريد كثير من السوريين رؤية هذا التغير والمراهنة عليه. فبوصفهم عرباً، من ناحية أولى، هم أبناء التاريخ، الحِقب، القرون. وكدليل عمل سهل يفضّلون استلهام صراعات الماضي الثنائية

لم يعلّم النظام السوريين أن ينظروا إلى العالم بالتواضع الذي يليق ببلد صغير من العالم الثالث

المبسطة على قراءة حاضر معقد ومتحرك. ومن ناحية أخرى بوصفهم «فينيقيين»، كما تم تذكيرهم بسرعة قبل أن يركبوا البلم، كزوادة غرور جماعي يواجهون به العالم الذي دخلوه بحقيبة كتف مبللة تحوي أقل الضروريات.

وبخلاف ما يظنه كثير منهم، ففي جذر كلتا النزعتين يقبع خطاب النظام في طوريه؛ البعثي منذ 1963 وحتى انهيار الأحلام الجماعية العربية في التسعينات، و«السوري» منذ تسلم بشار الأسد الحكم، قانعاً بما آل إليه عن أبيه دون طموحات إقليمية تذكر، وشريكاً لآل مخلوف ذوي الميول القومية السورية. وفي الحالتين لم يعلّم النظام السوريين أن ينظروا إلى العالم بالتواضع الذي يليق ببلد صغير من العالم الثالث.

وإذا أضيف إلى هذا الانتفاخ القومي، والتورم الوطني، عدد من حالات جنون العظمة المحلية هنا وهناك، في الجغرافيا والديموغرافيا السوريتين، كاعتقاد مدينةٍ أنها فُضِّلت على العالمين، وأخرى أنها منبع العراقة، وثالثةٍ أنها معلِّمة الأبجدية منذ فجر التاريخ إلى اليوم، وقبيلة بأنها أرومة العرب، ومنطقة بأنها أصل الحضارات ومهد الديانات؛ بوسعك أن تتخيل الذات المتضخمة الجريحة التي تقابل موظفي اللجوء.

وذلك فضلاً عن عجز قطاعات واسعة من المهاجرين الأكبر سناً عن حدود مقبولة من التفاعل مع المجتمعات الجديدة، بتعلم اللغة ودخول سوق العمل، مما يجعلهم أسيري المنازل والمجتمعات الأهلية المحلية، يقتصر نشاطهم على مشاهدة قنوات فضائية عربية ومتابعة مواقع التواصل الاجتماعي، مترقبين الصيحة التي ستتوافق مع مظلوميتهم الراهنة: تعرّض يافع للتنمّر في مدرسة بريطانية؛ مقتل شاب في منزل فنانة لبنانية؛ سقوط عامل بناء من برجية تركية. لا تهم ظروف الحدث، ولا مدى تواتره، ولا الإجراءات التي اتُّخِذت بعده. المهم أن «الضحايا» سوريون، وأنهم «بريئون» تعريفاً، وأن الموت، أو الظلم على الأقل، يلاحقانهم بالذات، كما تقول عبارة بكائية صارت شائعة في أوساطهم.

ويعرّفنا علم النفس بوضوح أن عقدة الاضطهاد هي الوجه الآخر لعقدة العظمة.

لا يعني هذا أن لا عنصرية في الغرب والشرق، وأن حوادث من نوع الاعتداء على مهاجرين لا تجري. لكنه يهدف إلى وضع هذه النزعات والأحداث في نصابها وحدودها، من جهة التكرار والفاعلين والدوافع والإجراءات، وهو مفتاح الطريق لحلها بالتعاون بين تجمعات اللاجئين وسلطات كل بلد. من المفترض أن استنكار وقائع كهذه مقدمة للسعي إلى معالجتها. لكن البحث عن تضخيمها وانكفاء الذات، الفردية والجماعية، عليها لا يبدو مدخلاً للمعالجة. بل هو طريق لاستمرار الذات في عبادة تجليها الخاص والدوران حوله بلا نهاية.