السلطة.. بين الأمر الواقع وحق الإنسان السوري

2023.04.07 | 03:51 دمشق

السلطة.. بين الأمر الواقع وحق الإنسان السوري
+A
حجم الخط
-A

في باحة المدرسة وقبل الدخول إلى "الصّف" كنّا نقف في الطابور لنردّد أهدافنا: "وحدة - حريّة- اشتراكيّة" ثمّ ندخل بانتظام يرأسنا "العريف" الذي عيّنه المعلّم.

كان المعلّم "أبا" مخوّلاً بالتربية والتعليم، والتربية كانت تعني: الانصياع للأوامر؛ أمّا العِلم: فكان أن "نبصم" ما بين دفّتي كتابٍ تحتلّ صورة الأب القائد والمعلّم الأوّل صفحته  الأولى وتحتل صورة أبناء الزعيم الصّفحة الأخيرة!

صفعة معلّم الصّف أو حتى "فلقته" التي ينالها "الكسلان - المشاغب" كانت تُعتبرُ رحمةً إذا ما قورِنت بعقوبة من يُرسله المعلّم إلى "الإدارة" إذ الفارق بين أبوّة المعلّم وبين أبوّة المدير كالفارق بين تدرّج ألوان قوس قزح على خدود وأكف التلاميذ!

أصبح الأسد الابن رئيساً وهو في الرّابعة والثّلاثين من عمره فصار لزاماً على السّوريين بكافة مؤسّساتهم الاجتماعيّة والرسميّة أن يهضموا سلطة أبويّة شابّة تصف مرؤوسيها بالأبناء حتى لو كان الابن أكبر سنّاً من أبيه!

في أثناء خدمة العلم  كانت كلمة "سَيّدي"  يمكن أن تُلمّح عن إرادة اختارت الخضوع طواعية وهو ما لا تحتويه مفردة "سِيدِي" باللهجة السوريّة حيث يؤكّد انكسار الحروف وابتلاع الياء الوسطى للياء الأخيرة على انمحاء الإرادة ما يعبّر عن آداب بروتوكوليّة يختص بها المجتمع السوري، وترضى عنها السلطات التي كانت تُراعي تسلسل السلطة مع تسلسل السّن في زمن الأب القائد؛ ثم تعمّدت كسر ذلك النّمط منذ أصبح الأسد الابن رئيساً وهو في الرّابعة والثّلاثين من عمره فصار لزاماً على السّوريين بكافة مؤسّساتهم الاجتماعيّة والرسميّة أن يهضموا سلطة أبويّة شابّة تصف مرؤوسيها بالأبناء حتى لو كان الابن أكبر سنّاً من أبيه!

يمكن تتبع منظومة السلطة السّياسيّة في مجمل العلاقات الموازية؛ كعلاقة الرجل والمرأة عموما والعلاقات الأسريّة ثمّ الشارع والحي والمدينة والمؤسّسات الرسميّة حيث لا تخرج عن المنظومة بل تدعمها وتؤكّد شرعيّتها وتشبه بمجملها العلاقة بين التّلاميذ وبين المعلّم: فالمجتهد أو "الحافظ" يجلس في المقعد الأوّل وتولّيه السلطة "عريفاً" وتعهد إليه بحفظ العصا؛ حتّى لتبدو السّلطة في البلاد فسيفساء هرميّة عملاقة تكرّر ذاتها في نماذج لا حصر لها متّجهةً نحو الأعلى كمصدر لتلقي السلطة منه ونحو الأدنى كموضوع لممارسة السلطة عليه!

فرض حزب البعث قانون الطّوارئ على السّوريين عام 1963 وألغاه بشّار الأسد عام 2011 إلّا أنّ ثقافة تعطيل الحقوق المدنيّة ظلّت تنبعث من مصدرين رئيسيّين:

أحدهما: من برامج لتيّارات أصوليّة غير منسجمة مع المدنيّة.

والآخر من برامج لتيارات علمانيّة ذات توجّهات شموليّة.

ولعلّ المشترك بين كلا التيّارين "الأصولي والشمولي" ولعهما بالسلطة التي لا تتأتى من إرادة النّاس بل تُمارس عليهم!

وربّما سيطر تيّار أصولي فعبّر عن سلطته بفرض الحجاب مثلا وربّما سيطر تيّار علماني شمولي فعبّر عن سلطته بفرض السفور إلّا أنّ   "الفرض" كآليّة مشتركة كاف للتوعية بأنّ توجّه السّلطة غير معنيّ بالاستناد إلى حريّة الإرادة الإنسانيّة في ارتداء الحجاب أو اختيار السفور بل السلطة معنيّة بفرض   "التحجيب أو التسفير" بوصفه ممارسة فرض السّلطة!

وكيف للسوريين أن يلمسوا فرقاً بين سلطات روحيّة تطالبهم بالتّخلي عن إرادتهم كاملة لولي الأمر تعبيرا عن إيمانهم الصحيح في إدلب مثلا وبين مثقف علماني يدعوهم إلى التّخلّي عن كامل إرادتهم لصالح "القيادة الحكيمة" تعبيراً عن وطنيّتهم في منطقة سوريّة أخرى!

بل ما مصلحة النخب "مثقّفي السلطة الروحيّة والعلمانيّة الشّموليّة" في بلوغ السوريين مرحلة متقدّمة من الإيمان مثلا أو الوعي الثقافي والكفاية من الفقر أو الجهل.. إذا كان عدم بلوغ السّوريين يؤمّن لتلك النّخب دوراً سلطويّا وظيفيّاً!

حيل السلطة الوصائيّة على مصالح الشعب ومصلحتها في إدامة فرض قوانين طوارئ يلغي كافة الحقوق المدنيّة - ليست موضوعا فلسفيّا بعيدا عن الواقع؛ ففي الوقت الذي كان بشّار الأسد يُجري مقابلة مع صحيفة "صنداي تايمز" البريطانيّة عام 2013 ويعلن تخوفه على "العلمانيّة" في سوريا والمنطقة كانت مؤسّسات النظام تعمل أرضاً وجوّا على هدم المدنيّة السوريّة!

ولم يكن من السّهل في النصف الثاني من عام 2013 تقديم شرح واف للثوّار السوريين الشباب غالبا عن طبيعة العلاقة بين سلطة علمانيّة غير شرعيّة مدنيّاً متمثلة بسلطة نظام الأسد وبين التشدد الديني وما يفترضه من سلطة غير مدنيّة؛ خاصّة أنّ شروط المعركة بين حريّة الشعب وبين استبداد السلطة جرى -عبر القصف الهمجي- تحويلها إلى معركة لإقامة "العدل في الأرض" والتفاضل بين سلطة عليا باسم الوطن وبين سلطة عليا باسم الله؛ ومن ثمّ فإنّ أيّة محاولة داخليّة للتنوير كانت مرصودة وتهدد حياة مرتكبها بشكل مباشر، في حين أنّ سعي المعارضة الخارجيّة للاستحواذ على السلطة –لا إلى إعادتها للمواطن السوري- لم يبعث فيها المصلحة بكشف اللعبة بوضوح فاكتفت المعارضة في أحسن أحوالها بالحديث عن ارتباط بعض قادة المجموعات الأصوليّة بفروع المخابرات فحسب!

حصد السوريّون ولايزالون شوكا ساهمت النّخب السلطويّة مع قوى الأمر الواقع في زرعه؛ ولا يزال موقف تلك النّخب من حريّة الإنسان السوري وحقوقه المدنيّة لا يدعو إلى التفاؤل!

لعلّ خيانة التنوير تبدأ من انتقاد سلطة أمر واقع روحيّة لصالح سلطة أمر واقع علمانيّة بذريعة أنّ الاستبداد الثاني استبداد تقدّمي؛ أو بانتقاد سلطة أمر واقع لصالح سلطة أمر واقع أخرى وكلاهما علمانيّة إلّا أنّ الثانية وطنيّة والأولى خائنة للوطن وفي خضم هذا وذاك يجري التغافل عن عدم شرعيّة كلّ سلطة لم تُستمد ديمقراطيّاً من إرادة الشعب الحرة!

وثمّة فرق بين أن أنتقد المعارضة "علمانيّة وأصوليّة" بناء على رغبتها بالاستحواذ على السلطة كبشّار الأسد وبين أن أنتقد إرادة السوريين لحريّتهم بذريعة انتشار الفوضى والفقر والموت؛ وكأنّ ذلك البؤس كان خياراً مارسه السوريّون لا ألماً فرضته سلطات الأمر الواقع وعلى رأسها الأسد فعاناه السوريّون!

يؤمّن الاستعلاء الثقافوي لبعض النّخب العلمانيّة على وجه الخصوص ريادة الاكتفاء بالإشارة إلى "جهل السوريين أو تطرّفهم" دون التفكير في لعب دور مسؤول يفكّك السلطة ويعيدها للإنسان السوري قبل تحميله المسؤوليّة؛ إذ لا مسؤوليّة لمن لا سلطة له!

إنّ النظام المستبد هو تلك السيرورة من العلاقات السلطويّة القهريّة وإسقاطه هو كبح قدرة تلك السيرورة السلطويّة على فرض اتّجاهها وترسيخ نماذجها

يمكن الإشارة إلى النّظام باعتباره عائلة الأسد فقط لكنّ ذلك وحده لن يظلّ كافيا طوال الوقت، ذلك أنّ بناء منظومة الحريّة استحقاق بحد ذاته لا يقلّ أهميّة عن إسقاط النّظام. ولعلّه ليس دقيقاً تعريف السلطة بأنها: القدرة على التّحكّم إلّا إذا كنّا نحاول وصف سلطة غير شرعيّة مدنيّاً؛ ذلك أنّ السّلطة بمعناها المدني: هي التّعبير عن وجود الإنسان وأثر إرادته في رعاية مصالحه؛ ومن ثمّ لا بدّ من إعادتها إلى الإنسان السوري.

إنّ النظام المستبد هو تلك السيرورة من العلاقات السلطويّة القهريّة وإسقاطه هو كبح قدرة تلك السيرورة السلطويّة على فرض اتّجاهها وترسيخ نماذجها؛ ومن ثمّ فإنّ تحقيق ثورة الحريّة لا يعني هدم البنى الاجتماعيّة أو مؤسّسات الدولة بقدر ما يعني تغيير اتجاه السلطة داخل تلك البنى لتنحاز إلى مصلحة الأفراد وتعبّر عنها.

جميعنا كسوريين معنيّون بتفكيك علاقات النظام السلطوي اجتماعيّا وثقافيّا وسياسيّاً لا لإحداث فراغ سلطوي تستغلّه قوى أصوليّة أو علمانيّات شموليّة تعيد بناء منظومة الوصاية القهريّة من جديد كما هو حاصل مع بالغ الأسف؛ بل لإعادة بناء منظومة سلطة شعبيّة مدنيّة حرّة.