السكن في زمن البرادات الخالية

2020.06.27 | 00:01 دمشق

438.jpeg
+A
حجم الخط
-A

في واحدة من تصريحاته التي حققت نسبة عالية من السخرية، يعلن الرئيس المصري، القادم من عباءة الجيش عبد الفتاح السيسي، أن براده بقي لسنوات ليس فيه شيء سوى الماء. لا يمكن تخيّل أن الرجل كان يتوقع أن يصدقه الجمهور أو أن فكرة التصديق كانت تهمه في الأساس، ولكنه كان يرمي من وراء ذلك إلى تركيب مشهد من جماليات الأوهام انطلاقا من خصوصية البراد الخاوي.

حرص الرئيس المتعسكر أن يقنع المصريين أن خواء براداتهم سيمكنهم من صناعة الأمجاد، وأن من شأنه أن يجعل من كل منهم رئيسا محتملا، وأن لحظته الرئاسية المعدة لتدوم إلى الأبد قد انبثقت ليس من العسكرة والتغلب ولكن من البراد الخالي.

بذلك كان يشرعن خلو البرادات من الطعام لأن هذا المشهد لم يكن تخييلا عاطفيا يفجره في وجه المصريين، بل كان ببساطة خلاصة المصير الذي يعده لهم والذي يريد لهم اعتناقه وتبنيه، لا بل أكثر من ذلك يريد لهم أن يكون مصدر اعتزازهم وفخرهم.

في مشهد آخر يتصل بدلالة البراد عرت وكالة الصحافة الفرنسية برادات اللبنانيين في مناطق مختلفة مظهرة خواءها. وقف الأشخاص في الصور أمام براداتهم وكأنهم يكشفون عن عوراتهم أمام الملأ، لأنه لم يعد لديهم ما يدافعون عنه أو يحتجون بواسطته سوى الإعلان عن عريهم العاري، غير القابل لشحنه بالأوطان والشعارات.

عندما تذهب لشراء براد يفتح البائع لك أبوابه ويعريه أمامك ليبهرك بلذة قادمة. يترك لك عملية التخطيط الذهني لكيفية توظيف جسد البراد العاري وتفاصيله بخصوصيات طعامك. لم يكن التعامل مع الأفكار المرتبطة بالبراد تحيله إلى مجرد وسيلة للبقاء على قيد الحياة بل كان في الغالب ترفا وذوقا وبهجة ولذة.

طالت الأزمات هذا المعنى وضيّقته، وأعادته إلى اللحظة التي كنا نعتقد أنه غادرها. خرجت البرادات من عالم الإغواء لتستقر في عالم الضرورات بوصفها مجرد مستودع لحفظ الطعام بهدف العيش، ولكن ما تقوله الصور تجاوز هذا البعد البدائي الأولي وأسقطه في محيط من الفراغ والتبدد الذي لا يحيل سوى إلى الموت.

البراد كان دائما فكرة تنطوي على علاقة بالمستقبل ودلالاته الرمزية ترتبط بالأمل فأنت تحتفظ فيه في أحوال اليسر بطعام مميز لتستهلكه في سبيل التلذذ ومشاركته مع من تحب من مقربين وأصدقاء، أي أنه كان يمثل عالما تتجه حركته دائما نحو الغد، فما يخزنه المرء فيه فعلا ليس الطعام وحسب ولكن الأوقات الجميلة والمسرات.

لا تمثل صور الوكالة الفرنسية خللا ما أو مجرد دلالة على سقوط الفقر الشديد على اللبنانيين، ولكنها تمثل الانقطاع عن صناعة الزمن والخروج من دائرته، فالبرادات الخالية لا تعني عجزا عن الدخول في عالم المسرات والمباهج بل تمثل عجزا عن الاستمرار في العيش، وتاليا فإنها لحظة توقف تام لا يمكن معها لأي شيء أن يبدأ أو يستأنف أو يستمر.

لحظة التوقف هذه هي عين ما يريده حزب الله للبلد وما كان السيسي يسعى إلى إدامة إقامة المصريين تحت ظلاله، فكما أن تفوق نظامه وما أنتجه من سطوة غير محدودة على كل مفاصل العيش في بلاد النيل لم يترجم فعليا إلى استرخاء الواثق من قوته، بل على العكس من ذلك استفحل الفجور الأمني متجاوزا هدف الإخضاع والترهيب ليحول التنكيل الدائم إلى شكل وحيد للحياة وإلى السيرة التي لا يمكن أن يكتب سواها.

الأمر نفسه يتكرر في البلاد الواقعة تحت نير الانتصارات الإلهية والعهد القوي. تهريب الطعام والمازوت والدولارات إلى نظام الأسد ليس فعل حرب وصراع بل لا يعدو كونه في ظل الظروف الحالية فعل تنكيل باللبنانيين والسوريين. المواد المهربة لا تصل إلى عموم السوريين بل تساهم في منح النظام السفاح بعض القدرة على الاستمرار في القتل من دون أن تترجم هذه القدرة في مجال تغيير أي معادلات على الأرض. يسرق الطعام من برادات اللبنانيين لإطعام نظام لم يهدف يوما سوى إلى تجويعهم وتجويع السوريين.

يفعل حزب الله ذلك ليس دفاعا عن سلطته فهي لم تشرع في التهاوي الجدي بعد ولكن من أجل سلبنا زمننا وإيقافه وتحويله إلى تنكيل مديد ومتواصل، لأنه يعلم أن للترهيب حدود وللخوف أيضا حدود وكذلك للجوع، وأنه مهما اشتدت وطأة كل هذه العناصر مفردة أو مجتمعة فإن بارقة أمل مهما كانت ضعيفة يمكنها أن تهد الهيكل عليه وعلى زمنه.

مشكلة كل منظومات الغلبة في المنطقة هي مع الأمل، ولا بد من القول إنها قد نجحت في القضاء عليه، ولكنها لم تقتنع بذلك، فهي تؤمن أنه كامن في مكان ما، وأنه لا بد أن يظهر بشكل من الأشكال، وربما تكون المعضلة التي تعاني منها السلطات عائدة إلى متانة إحكام قبضاتها على كل مفاصل العيش وليس العكس.

في مثل هذه الحالة من الإحكام الشديد يتخذ أي خدش على وجهها ومهما كان ضئيلا صفة التهديد الجدي، لذا فإن عمليات التسفيه التي تمارسها منظومة الغلبة الإلهية في لبنان في وجه كل صرخات الجوع تنبع في أن اللبنانيين الواقفين أمام براداتهم الخالية يعلنون عن فقدان الأمل ولكنهم يستبدلونه بما يمكن أن ينتجه ويصنعه لاحقا ألا وهو الاحتقار.