السباحة في حزن المجزرة 4

2022.12.01 | 06:16 دمشق

السباحة في حزن المجزرة 4
+A
حجم الخط
-A

في الكثير من تجارب الدول التي شهدت جرائم ضد الإنسانية. غالباً ما يسعى الناجون وأهالي الضحايا للحصول على الاعتراف بما حدث. فمجرد الاعتراف يشكل جزءاً مهماً من العدالة، وهو غالباً لا يأتي. في حالتنا السورية، ومنذ نصف قرن تقريباً، يؤكد نظام الأسد على الدوام أنه لم يرتكب أياً من المجازر التي يعرفها العالم أجمع. لا مجزرة حماة 1982 التي حصدت أرواح الآلاف، ولا مجزرة سجن تدمر، وهو حتى لم يعدم الآلاف دون محاكمات، وبطبيعة الحال هو لا يفصح عن مصير عشرات آلاف المفقودين أيام الأسد الأب، الموثقين لدى المنظمات الحقوقية. وحديثاً فإنه بالتأكيد لم يقتل ويعدم ويخف مئات الآلاف في العقد الأخير خلال حكم الأسد الابن.

الأبرز في حكاية أوسكار، أنها تلقي الضوء على جانب من نجاحات النضال الذي تخوضه المنظمات المدنية والحقوقية، لفضح ومقاومة السياسة الرسمية لحكومات الولايات المتحدة المتعاقبة

يكرر الخبراء بأن "العدالة المطلقة" غير ممكنة التحقيق في مثل تلك الحوادث، إذ لا يمكن محاكمة كل المرتكبين، وغالباً ما يتم الاكتفاء بمعاقبة المسؤولين الأساسيين في الارتكابات، وأحياناً محاسبة الضالعين في المجازر الكبرى، لما في ذلك من رمزية تعيد بعض الكرامة للضحايا وذويهم. وهذا بالضبط ما كان يطالب به الناجون وأقارب ضحايا مذبحة "دوس إيريس"، وهو ما لم يحدث رسمياً إلا في وقت متأخر. فخلال عقود كانت الحكومات تتهم المتمردين اليساريين، ومعظمهم من قبائل "المايا" السكان الأصليين، بكافة أعمال العنف والقتل في البلاد.

الأبرز في حكاية أوسكار، أنها تلقي الضوء على جانب من نجاحات النضال الذي تخوضه المنظمات المدنية والحقوقية، لفضح ومقاومة السياسة الرسمية لحكومات الولايات المتحدة المتعاقبة، التي دعمت أعتى الديكتاتوريات في العالم، وبخاصة في أميركا اللاتينية، تحت شعار محاربة الشيوعية. وهي إذ تمثل واحدة من الانتصارات في هذا الحقل، إنما تُفصِح عن مناضلين لا يجيدون المهادنة، حين يكون الأمر متعلقاً بإفلات المجرمين من العقاب.

إضافة إلى أبطال القصة من الغواتيماليين المناضلين في مجال حقوق الإنسان، يبرز دور الإعلام، وما فعله الصحفي الأميركي "سيباستيان روتيلا" لجعل جريمة "دوس إيريس" في مركز الضوء، وبالتالي غير قابلة للتجاهل. مما جعل العديد من الأجهزة الأميركية الرسمية، بما فيها القضاء ودائرة الهجرة، تعمل على القضية. خصوصاً أن مثل تلك الأحداث والجرائم خلقت ظروفاً اجتماعية وسياسية واقتصادية في أميركا الوسطى، دفعت مئات آلاف الناس إلى الهجرة القسرية نحو الشمال.

في جميع أنحاء الولايات المتحدة، قام محققو دائرة الهجرة والجمارك بفحص قائمة المشتبه بهم في مجزرة "دوس إيريس"، بحثاً عن خيوط. في ولاية كاليفورنيا، أُلقي القبض على "بيدرو بيمنتيل"، وهو واحد من عناصر الكوماندوز الغواتيماليين، كانت مروحية أميركية حملته بعد المجزرة من "دوس إيريس" إلى "بنما"، ليغدو مدرباً في الأكاديمية العسكرية الأميركية هناك (مدرسة الأميركيتين)، وهي مركز تدريب سيئ السمعة، حيث شارك بتدريب العديد من أسوأ ضباط أميركا اللاتينية المتورطين في الفظائع. في نهاية خدمته منحه الجيش الأميركي "وسام الثناء" لقاء إنجازاته. بعد قرابة ثلاثة عقود، وجد ضباط دائرة الهجرة "بيمنتيلي" يعيش بشكل غير قانوني في ولاية كاليفورنيا، فقاموا بترحيله إلى غواتيمالا لمحاكمته.

ساعدت الاعتقالات الأميركية في إعادة تحقيق "دوس إيريس" إلى الحياة. كان الجيش الغواتيمالي أكثر استجابة لطلبات السلطات الأميركية، من استجابته للمدعين العامين المحليين، وسلم وثائق حول الكوماندوز الهاربين الذين قبض عليهم مكتب الهجرة والجمارك. بدورهم، أرسل المحققون الأميركيون نتائج التحقيقات لنظرائهم في غواتيمالا، حيث أدت الاعترافات والأدلة إلى تعزيز القضايا ضد عشرة من المشتبه بهم الآخرين، ممن لم يعتقلوا بعد.

في السابع من آب/أغسطس عام 2011، اتصل بيتشيريللي بأوسكار. أوضح له أن اختبارات الحمض النووي استبعدت بشكل قاطع إحدى نظريات النيابة، وهي أن أوسكار والصبي الآخر المخطوف راميرو أخوان. رد أوسكار بأنه ليس متفاجئاً. كان هناك المزيد مما سيقوله بيتشيريللي، فأضاف: "لكننا وجدنا والدك الحقيقي، إنه رجل نبيل اسمه ترانكويلينو". بدا أوسكار وكأنه غير مصدق لما يسمع. التفت إلى زوجته "نيديا" وردد الكلمات بصعوبة "وجدوا والدي".

كان المحققون قد أخذوا الحمض النووي لكاستانيدا وتحدثوا معه لعدة أشهر دون الكشف عن شكوكهم حول هوية أوسكار الحقيقية. عندما تأكدوا أنه ابنه، وقرروا إخبار الأب، أحضروا طبيباً معهم، لمتابعة وضعه فيما لو انعكس وقع الخبر عليه صحياً بشكل سيئ. اتصلوا بأوسكار لإجراء محادثة فيديو. رأى أوسكار والده يظهر على شاشة الكمبيوتر. كان نحيلاً وقوياً رغم أنه يبلغ من العمر 70 عاماً. يرتدي قبعة رعاة البقر، فوق وجه خشن محفور عليه عقود من العمل والعزلة، عندما كان يسبح وحيداً في حزن المجزرة.

سحب أحد المحققين كرسيه ليكون بجانب الأب وقال: "سأخبرك بشيء. هل تعرف هذا الشاب الذي يظهر على الشاشة؟" أجاب الأب بالنفي، فتابع المحقق "إنه ابنك ألفريدو". الأب، الذي دمرته مجزرة دوس إيريس فتحصَّن بعدها داخل كوخ في الغابة، بدا مذهولاً. كان حزيناً ومرتبكاً أكثر من أن يكون فرحاً. اجتمع المحققون حوله لتهدئته. أسقط الرجل جرعة من الشراب في فمه محاولاً تصفية رأسه، حسب تعبيره.

حدَّق الأب طويلاً في الشاشة. حاول أن يقارن وجه الرجل البالغ البعيد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، بالطفل السمين الذي يتذكره. وبينما كان الجميع من حوله يراقبون الدموع في عينيه، خاطب كاستانيدا ابنه باسمه الحقيقي "ألفريديو. كيف حالك؟". كانت المحادثة عاطفية وغير مريحة. لم يعرف أوسكار ماذا يقول. سأله كاستانيدا ما إذا كان  يتذكر أنه فقد أسنانه الأمامية عندما كان صغيراً. قال أوسكار إنه يتذكر ذلك. باستثناء تلك الكلمات القليلة أمضى الرجلان معظم الوقت في النظر كل منهما إلى الآخر.

تحدث الأب والابن مرة أخرى عبر الهاتف. ثم سرعان ما باتا يتحدثان كل يوم، ليتعارفا أكثر وليسدَّا فراغ ثلاثة عقود مفقودة. بعد شهور وبترتيب من المحققين والنشطاء، وصل كاستانيدا برفقة الناشطة الحقوقية فارفان والمحقق بيتشيريللي، إلى مطار نيويورك ليلتقي بابنه وأحفاده الأربعة للمرة الأولى بعد 30 عاماً. في المطار رأى أحفاده يحملون لافتات صغيرة كتبوا عليها عبارات الترحيب بالجدّ المُكتشَف. بعد سنوات من العيش وحيداً رِفقة الحزن والذكريات المريرة، وجد الرجل العجوز نفسه محاطاً بالعائلة مرة أخرى.

خلال السنوات التالية قُبِض على العديد من مرتكبي المجزرة، وحوكموا وقضت أحكامهم بالسجن لمدد غير واقعية، لكنها تحمل دلالات رمزية قوية. كانت الأحكام هي السجن 6060 عاماً لكل منهم. ثلاثون سنة عن كل ضحية مثبتة. ثلاثة من عناصر الكوماندوس لم تستطع الولايات المتحدة ترحيلهم لأسباب قانونية بسبب حصولهم على الجنسية، فحاكمتهم بتهمة الإدلاء بمعلومات كاذبة لدائرة الهجرة، وبينما كان من الطبيعي أن يحكموا بالسجن لشهور قليلة، فإن القضاة، في واقعة غير مسبوقة، حكموهم بالحد الأقصى الممكن وهو السجن عشر سنوات.

نادراً ما تؤدي جرائم الهجرة إلى عقوبة بالسجن تزيد عن ستة أشهر. لكن القاضي "ويليام زلوخ" شعر بالاشمئزاز مما سمعه في المحكمة. ازداد غضبه عندما جادل أحد المحامين بأن موكله "جيلبرتو جوردان" لا يمثل خطراً على المجتمع. انتفض القاضي متسائلاً "كم جريمة عليه أن يرتكب بعد تلك المجزرة ليكون خطراً برأيك؟ كم عدد الرؤوس التي يجب أن يحطمها؟ كم عدد النساء الواجب اغتصابهنّ؟ وكم عدد الأشخاص الذين سيطلق عليهم النار لنستطيع وصفه بأنه خطر على المجتمع؟".

تشير التقديرات إلى أن أكثر من ثلاثة عقود من الصراع في "غواتيمالا" أجمل بلدان أميركا الوسطى، خلّفت ما يزيد عن 200 ألف قتيل، إضافة إلى 45 ألفاً ما زالوا في عداد المفقودين

خلال السنوات التالية كان أوسكار، الذي حصل على اللجوء السياسي في أميركا، ووالده شهوداً لعدة مرات أمام المحاكم في قضية مجزرة "دوس إيريس". في واحدة من الجلسات سيقول أوسكار للقاضي"في السابق، كنت أعتقد أن رجال حرب العصابات والجيش يقتتلون فيما بينهم. لكني لم أكن أعرف أبداً أن الجنود ذبحوا المدنيين الأبرياء".

اليوم يبلغ كاستانيدا الثمانين من عمره. في ربيع هذا العام، يوم 31 أيار/مايو 2022، وقف أمام القاضي، لكنه لم يتمكن من الإدلاء بشهادته "لم أعد أتذكر بوضوح الحقائق التي اختارتني النيابة للإدلاء بالشهادة حولها" قال ترانكويلينو كاستانيدا.

تشير التقديرات إلى أن أكثر من ثلاثة عقود من الصراع في "غواتيمالا" أجمل بلدان أميركا الوسطى، خلّفت ما يزيد عن 200 ألف قتيل، إضافة إلى 45 ألفاً مازالوا في عداد المفقودين، و600 قرية سُوِّيت بالأرض بعد قتل أهلها. في واحدة من الجلسات، ودون أن يطلب منه أحد ذلك، سأل كاستانيدا: "هل يمكنني أن أذكر لكم أسماء أطفالي؟". أومأ القاضي، المتفاجئ من الطلب، بالموافقة. راح الرجل يعدد أسماءهم "إنهم إستير، إيتلفينا، إنما، ماريبيل، لوز أنطونيو، سيزار، أوديليا، روزالبا وألفريدو الأصغر. من بين التسعة، لا يزال واحد فقط على قيد الحياة، لكن الباقين ماتوا. أعتقد من واجبي أن أذكرهم بالاسم، إنهم أطفالي".