السباحة في حزن المجزرة 3

2022.11.24 | 07:06 دمشق

غواتيمالا
+A
حجم الخط
-A

لا أعتقد أن قصة ألفريدو (أوسكار)، على ما تحمله من تراجيديا خاصة، حالة فريدة. ففي رصيدنا السوري وحده، ربما توجد مئات القصص المشابهة، ولكنها للأسف لم تُدَوَّن. في سجن صيدنايا، مطلع تسعينيات القرن الماضي، أخبرني ناجٍ من المجزرة، إذا جاز لي أن أصف سجيناً لأكثر من عقد بالناجي، أنه فقد كامل عائلته في مذبحة حماة 1982. قتلهم جنود "سرايا الدفاع"، مع عشرات من أهالي الحي، بوابل من الرصاص أطلقوه عليهم، بعد تجميعهم أمام أحد الجدران في الشارع.

أما هو فنجا من الموت ربما مصادفةً، أو لسبب لم يستطع تفسيره: "ربما لأني كنت فتىً، أصغر من أن يُقتل كإخوته، ولكن أكبر من أن ينجو من الاعتقال". كان الشاب يردد على الدوام أنه في يومٍ ما، حين يخرج إلى الحرية لن يجد بيتاً، ولا أحداً ليستقبله.

مع الكثير من جرائم اختطاف الأطفال العشوائية، والانتهازية بهدف البيع أحياناً، كان "ألفريدو" محظوظاً بأنه تربى في عائلة اعتبرته ابنها فعلاً لسنوات طويلة، قبل أن يغادر غواتيمالا، ويعبر بطريقةٍ غير شرعية إلى أميركا عام 1998، ليبني أسرة وحياة هناك. بينما عاش "راميرو" الطفل الآخر الأقل حظاً، الناجي من مجزرة دوس إيريس، حياةً تشبه العبودية، تمَّ تتويجها بتطويعه في الجيش.

حالة أوسكار كانت شاذة، بينما نموذج معاناة راميرو هو السائد في قصص الأطفال المختطفين خلال الحرب، الذين عانوا جميعاً مثله، من العمل القسري وسوء المعاملة.

يقدِّر المحققون الحكوميون أن الجيش خطف أكثر من 300 طفلاً خلال النزاع المسلح في غواتيمالا. أصبح اختطاف الأطفال، خصوصاً من أبناء العائلات اليسارية نهجاً منتظماً. على المستوى الإيديولوجي، أراد الخاطفون، حسب زعمهم، القضاء على جيل من المخربين المستقبليين، من خلال منحهم أو بيعهم لعائلات موالية للديكتاتورية.

في النصف الثاني من القرن العشرين (بل حتى اليوم، في عدّة بلدان، ولأسباب مختلفة) لعب دعم الولايات المتحدة للأنظمة القمعية، خصوصاً في أميركا الوسطى، دوراً رئيسياً في تفريخ العنف والفساد وانعدام القانون. الواقع الذي لا يزال قائماً حتى اليوم، على الرغم من مرور فترة طويلة نسبياً على عودة الديمقراطية. من ضمن تلك الأنظمة كان النظام العسكري الديكتاتوري في غواتيمالا، حيث نفّذت أميركا أول انقلاب عسكري على رئيس منتخب في أميركا الوسطى.

تثبت وثائق المخابرات المركزية الأميركية، أن انقلاب عام 1954 الذي أطاح بالرئيس "جاكوبو أربينز"، كان بتمويل وتخطيط أميركي مباشر. والأدهى أن الوثائق تفيد بتخطيط وكالة المخابرات لقتل الرئيس، مع قوائم معدة مسبقاً لقتل 58 آخرين من الفاعلين والمؤثرين، ونفي أو سجن عشرات آخرين

تثبت وثائق المخابرات المركزية الأميركية، أن انقلاب عام 1954 الذي أطاح بالرئيس "جاكوبو أربينز"، كان بتمويل وتخطيط أميركي مباشر. والأدهى أن الوثائق تفيد بتخطيط وكالة المخابرات لقتل الرئيس، مع قوائم معدة مسبقاً لقتل 58 آخرين من الفاعلين والمؤثرين، ونفي أو سجن عشرات آخرين. للأسف حذفت الأسماء من الوثائق المفرج عنها عام 1997، فلم يُعرف إن كانت عمليات القتل قد تمت، أم أن الخطط قد عُدِّلت باستقالة "أربينز" الذي نجا من حكم الإعدام الذي أصدرته المخابرات الأميركية بحقه.

بعد أن نصَّبت وكالة المخابرات الأميركية الجنرال "كاستيلو أرماس" في السلطة. تم القبض على المئات من الغواتيماليين وقتلهم. الانقلاب أدخل البلد في حالة مريعة من العنف لسنوات طويلة. إثر حدوث تمرد عسكري صغير في أعقاب الانقلاب، طوَّر القادة العسكريون في غواتيمالا وصقلوا مهاراتهم لممارسة العنف، فقادوا حملة لمكافحة التمرد في الجيش، خلَّفت عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين.

في عام 1996، انتهت أكثر من ثلاثة عقود من الحرب، بعد توقيع معاهدة سلام بين المتمردين اليساريين والجيش الغواتيمالي، فانتهى العنف المعمم. لكن في أواخر عام 2010 تغيرت الظروف إلى انفراج ديمقراطي نوعي وحقيقي إلى حدّ معقول. عيّن الرئيس "ألفارو كولوم" مدعيةً عامة جديدة هي "كلوديا باز". شنّت الأخيرة حملة غير مسبوقة ضد منتهكي حقوق الإنسان. اتهمت أعنف الديكتاتوريين السابقين "إفراين ريوس مونت"، الذي حكم البلد بين عامي 1982 و1983، بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، ومنها جريمة دوس إيريس.

بعد خمسة عشر عاماً من فتح القضية. المدعية العامة "روميرو" أمرت في عام 2011 بشن حملة اعتقالات جديدة. تمكنت الشرطة من القبض على ثلاثة من الكوماندوز، إضافة إلى "كارياس" القائد العسكري المحلي السابق الذي نهب وجرَّف القرية. واجه المحققون بشجاعة احتمال المخاطر التي يعرضون أنفسهم لها، فقد قُتل خلال تلك الفترة شاهدٌ في قضية أخرى.

هدَّدَت عائلات العسكريين في مدينة غواتيمالا، حيث يعيش المشتبه بهم، بقتل رجال الشرطة الذين كانوا يبحثون عن مجرمي الحرب. فرَّ العقيد "روبرتو ريفيرا" الملازم السابق المسؤول عن وحدة دوس إيريس، عندما وصل فريق الاعتقال إلى منزله المجهز بنفق متصل بمبنى آخر. اشتبه ممثلو الادعاء في أن معظم الهاربين كانوا يختبئون في قواعد عسكرية أو في مناطق يسيطر عليها الجيش.

أمر القاضي المشرف على القضية "روميرو" بمضاعفة جهودها للعثور على أوسكار. قبل سنوات، أحبطت مقاومة عائلة أوسكار محاولتها. والآن عادت لتلتقي بالعائلة من جديد. قابلت عم أوسكار وهو طبيب معروف. العم كان اتهمها سابقاً بمحاولة تلويث سمعة أخيه. هذه المرة، كان الطبيب أكثر تعاوناً، فكشف أن أوسكار يعيش في الولايات المتحدة ولديه الآن عائلة هناك.

ادعى العم أنه لا يعرف رقم هاتفه، لكنه عرَضاً، ذكر لها اسم عائلة زوجة أوسكار. عثرت روميرو عليهم وأخذت منهم عنوان بريد أوسكار الإلكتروني، وتركت لهم رقم هاتفها. خلال أيام قليلة، بعد أن سمع عن زيارتها لأهل زوجته، اتصل أوسكار بروميرو. أجرت معه محادثة قصيرة، أخبرته أن هناك مسألة حساسة بشأن طفولته تتعلق بمذبحة في الحرب. وعدته أنها سترسل له التفاصيل عبر البريد. لم ترغب، وربما لم تستطع، أن تلقي قنبلتها عبر الهاتف.

استجمعت "روميرو" كامل قدراتها قبل أن تكتب للشاب بأن هويته وعالمه كله، وحياته التي عاشها كانت مبنية على كذبة "عرفتُ أنه مهاجر غير شرعي، وتخيلتُ وجوده بعيداً عن أهله. فكرت في تأثير الخبر عليه، وتساءلتُ ما إن كان سيحتاج إلى استشارة نفسية بعد صدمة الخبر". بدأت الكتابة بجملة صغيرة "أنت لا تعرفني"، وتابعت بإخباره أنها متأكدة من أنه أحد الناجين من مجزرة "دوس إيريس".

في اللحظات التي بدأ أوسكار قراءة البريد الإلكتروني، راح يتنقل بين أفكار ومشاعر معقدة. وجد صعوبة في تصديق أنه عاش حياة مختلفة حتى سن الثالثة. لم يستطع استدعاء أي صورة في ذهنه لقرية دوس إيريس. فكر كيف عاملهُ الأقارب في "زاكابا" كفرد كامل العضوية في الأسرة..

في اللحظات التي بدأ أوسكار فيها قراءة البريد الإلكتروني، راح يتنقل بين أفكار ومشاعر معقدة. وجد صعوبة في تصديق أنه عاش حياة مختلفة حتى سن الثالثة. لم يستطع استدعاء أي صورة في ذهنه لقرية دوس إيريس. فكر كيف عامله الأقارب في "زاكابا" كفرد كامل العضوية في الأسرة. ثم عاد وتذكر مقال الصحيفة عنه وعن راميرو، قبل عقد من الزمن. القصة التي رفضتها عائلته باعتبارها كذبة تهدف لتشويه سمعة والده. مثله كمثل بلده، كان يجب على أوسكار أن يختار، ما إن كان سيواجه الحقائق المؤلمة، أم أنه سيدير ظهره ويتجاهلها.

بعد فترة من التواصل، طلبت روميرو من أوسكار أن يجري اختباراً للحمض النووي، فوافق. وصل"فريدي بيتشيريللي" المحقق الغواتيمالي في مجال حقوق الإنسان، إلى الولايات المتحدة لجمع الأدلة التي ستحدد هوية أوسكار الحقيقية، مرة واحدة وإلى الأبد. بحسب "بيتشيريللي" وهو عالم أنثرويولوجيا شرعي، فإن ألفريدو، رغم مواجهته الأمر بشجاعة، لم يتقبل، على المستوى النفسي، قصته الحقيقة، وتمنى في أعماقه ألا يكون الأمر برمته صحيحاً. كان وكأنه يردد "دعوني. لا أريد أن أكون صاحب تلك القصة". كان كلما تأمل ألبوم صوره طفلاً وشاباً يعود إلى حقيقتين. الملازم أنقذه من الموت في المجزرة، وعائلة راميريز عاملته كواحد منهم. أما القصة التي جاءته بها المدعية العامة "روميرو" فبدت له كزلزال سوف يخلخل حياته.