السباحة في حزن المجزرة 2

2022.11.17 | 06:18 دمشق

دوس إيريس
+A
حجم الخط
-A

"كيف أستطيع أن أجلس وأتناول القهوة هناك؟ وأنا أعلم أن تحتي مباشرة جماجم ضحايا من الرجال والنساء، وعظام أطفالٍ كانوا يملؤون الحي بضجيج ألعابهم، قبل أن يُقتَلوا". هذا ما قاله كهلٌ من مدينة حماة السورية، بعد تلقيه دعوة لتناول القهوة في فندق حديث بُني على أنقاض البيوت التي هُدمت فوق رؤوس أصحابها في حي الكيلانية ومحيطها، خلال المجزرة التي ارتكبها حافظ الأسد في المدينة عام 1982. وكان هذا ما سيردده الرجل لاحقاً على الدوام، كلما تلقّى دعوة إلى ذاك الفندق.

بعد مجزرة "دوس أيريس" في غواتيمالا عام 1982، استطاع "ساول أريفالو" الذي فقد والديه وخمسة إخوة أن يعود لمشاهدة ما حدث لقريته

بعد مجزرة "دوس أيريس" في غواتيمالا عام 1982، استطاع "ساول أريفالو" الذي فقد والديه وخمسة إخوة أن يعود لمشاهدة ما حدث لقريته. سيتحدث لمحطة BBC الدولية عام 2013: "بعد 15 يوماً من المذبحة، أتيحت لي الفرصة للمرور هناك، حيث كان الأطفال قبل ذلك يركضون ويلعبون كرة القدم ويسمعون تراتيل الكنيسة التي تأتي عبر مكبرات الصوت. لم أستطع الوقوف طويلاً، كان المكان غريباً، ولم أشاهد سوى الحمام والعصافير والصمت، ولا شيء أكثر". يا الله، ما أشدَّ الشبَه! تكاد تضاريس جروح الناجين من المجازر أن تكون متطابقة مهما تباعدت الجغرافيا.

بحسب "سيباستيان روتيلا" الصحفي الأميركي الشهير، وكان أول من أظهر قصة مجزرة "دوس إيريس" بتفاصيلها الدقيقة، في تحقيقه الاستقصائي المُطوَّل الحائز عدّةَ جوائز، فإن المدعية "سارا روميرو" عملت على قضية المذبحة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. "لم تكن طريقها سهلة. كانت تبدو كمقاتلة على الخطوط الأمامية بمواجهة الجريمة" يقول روتيلا. على الرغم من أن جرائم الحرب مرت من دون عقاب لسنوات، فإنها كانت مصممة على متابعة التحقيقات بغض النظر عن الصعاب. اعتقدت على الدوام، أن الإفلات من العقاب سيظل راسخاً في المجتمع الغواتيمالي، إذا لم تنتصر في معركتها. وكان أن حالفها الحظ بتعرفها على "أورا إيلينا فارفان".

في العاصمة غواتيمالا، قادت فارفان جمعية لحقوق الإنسان وضحايا النزاع. على الرغم من الترهيب والتهديدات، فقد تقدمت بشكوى جنائية تتهم فيها الجيش بارتكاب جرائم قتل جماعي في دوس إيريس. في عام 1994، أحضرت فريقاً من علماء الأنثروبولوجيا المتطوعين من الأرجنتين لاستخراج الرفات. كان الأرجنتينيون قد صقلوا مهاراتهم من خلال التحقيق في "الحرب القذرة" التي دارت في بلدهم أيضاً. عمل الفريق الأرجنتيني في ظروف محفوفة بالمخاطر. قام الجيش بمتابعتهم ومضايقتهم طوال عملهم لاستخراج الجثث. أخيراً انتشلوا بقايا ما لا يقل عن 162 جثة. ومنها بقايا أطفال البئر.

أجرت فارفان كثيراً من المقابلات الإذاعية. حثَّت معاصري المجزرة الخائفين على التقدم للإدلاء بشهاداتهم. أخيراً، بعد واحدة من مقابلاتها الجريئة، أخبرها مسؤولو الأمم المتحدة أن جندياً سابقاً يريد التحدث عن دوس إيريس. سيقول "بينزون" طباخ فرقة الكوماندوس لفارفان: "أردت أن أتحدث معك. لدي هنا في قلبي ما لا يمكنني تحمله بعد الآن". بعد أن سمعت منه على مدى أربع ساعات قصة المجزرة كاملة، أرشدها الرجل إلى عضو آخر "تائب" هو "سيزار إيبانيز" فقابلته أيضاً. أقنعت فارفان الرجلين بالإدلاء باعترافهما أمام المدعية العامة "سارا روميرو" ففعلا.

كان من المستحيل معرفة تفاصيل المجزرة لولا هاتين الشهادتين. وبسبب أن معلوماتهما كانت خطيرة وموثوقة وبالغة الأهمية للقضية، فقد مُنحا الحصانة، ونقلا ليكونا من الشهود المحميين. بعد اعترافات الرجلين، شعرت المدعية "روميرو" أن معرفتها بقصة الطفلين المخطوفين كانت معجزة. كان الأمر بالنسبة لها يشكل أهم دليل يمكن استخدامه في المحاكمات. بسهولة وصلت إلى عنوان "ألونزو" خاطف راميرو.

أكدت لها الصور العائلية المنتشرة على جدران المنزل بأنها كانت في المكان الصحيح. كان ألونزو ذا بشرة داكنة. خمسة من أبنائه يشبهونه. أما السادس راميرو فكانت بشرته فاتحة وعيناه خضراوين. سريعاً اعترف الرجل بأنه أحضره من دوس إيريس وأخبر زوجته حينئذ، أنه طفل تم التخلي عنه. وهو يبلغ اليوم 22 عاماً، وقد جنّده متطوعاً في الجيش، لكنه رفض الكشف عن مكان الشاب.

من دون أن توضح الأسباب وراء سؤالها، استفسرت روميرو عن مكان الجندي الشاب من وزارة الدفاع. بدلاً من التعاون، ربما بدافع الخشية، راحت الوزارة تنقل الجندي الشاب من قطعة عسكرية إلى أخرى، كي لا يصل أحد إليه. كان المحققون قلقين من أن راميرو سيكون في خطر شديد، وقد يتعرض للقتل، إذا علم الجيش أنه دليل حي على المجزرة. في النهاية، وجده المدّعون وأبعدوه.

كانت لدى راميرو ذكريات عن المذبحة، وعن قتل عائلته. وعن كامل حياته فيما بعد "عاملوني بطريقة سيئة، وضربوني كثيراً. استخدموني كعبد تقريباً. عملت عشرين ساعة في اليوم، ونمت في الإسطبل" قال روميرو متذكراً حياته في منزل ألونزو. أقنع الادّعاء الشاب بمغادرة الجيش، وحصلوا له على حق اللجوء السياسي في كندا، محتفظين به كشاهد لحين المحاكمات.

لدى راميرو ذكريات عن المذبحة، وعن قتل عائلته. وعن كامل حياته فيما بعد "عاملوني بطريقة سيئة، وضربوني كثيراً. استخدموني كعبد تقريباً

علم المدّعون أن اسم الصبي الآخر كان "أوسكار راميريز". توفي مختطفه الملازم المشتبه به بعد ثمانية أشهر من المذبحة. كان يستخدم شاحنة انقلبت به، ما أدى إلى مقتله على الفور. في عام 1999، في بلدة "زاباكا" حيث تربى ألفريدو، استجوبت روميرو شقيقة الملازم. كشفت المرأة أنه راميريز الأخ أحضر الصبي إلى المنزل في أوائل عام 1983، ومع ذلك بقيت مصرّةً أن أوسكار هو ابن أخيها لكن من علاقة خارج الزواج. وأضافت أن أوسكار غادر البلاد إلى الولايات المتحدة. لكن لا الأخت ولا باقي أفراد العائلة رغبوا في مساعدة المحققين للعثور عليه. لصعوبته البالغة، قررت روميرو توقيف البحث عن أوسكار.

أحرز المحققون تقدمًا في خيوط أخرى. لقد تعرفوا على العديد من الجُناة أعضاء فرقة الكوماندوز. في عام 2000، أصدر أحد القضاة أوامر توقيف بحق 17 مشتبهاً بهم في المذبحة. لكن في الواقع المعقد لغواتيمالا، لم يكن الأمر يسيراً لسَوق المجرمين إلى العدالة. فشلت الشرطة في تنفيذ معظم أوامر التوقيف. كانت روميرو بمواجهة قاسية مع جهاز الجيش، الذي ساعد المطلوبين على الاختباء، حتى ضمن الثكنات العسكرية. بدا الأمر لروميرو كما لو أن العدالة كانت تراوغها، تماماً كما فعل أوسكار الذي لم تعثر عليه.

في صيف عام 2000، تلقى ألفريدو (أوسكار) الذي كان يعيش بالقرب من بوسطن رسالة محيرة. أرسل له أحد أبناء العمومة نسخة من مقال نُشر في صحيفة "غواتيمالا سيتي". يتحدث المقال عن صبيين نجَوَا من المذبحة وربّتهما عائلات عسكرية. استطردت القصة لتوضح أن النيابة حددت كلا الشابين. يعتقد المدّعون أن أحدهم هو أوسكار راميريز، الذي يعيش في مكان ما في الولايات المتحدة. أُرفق المقال بصورة عائلية في صدر الصفحة، يظهر فيها أوسكار وهو في الثامنة من العمر.

ذكر المقال أن الصبي ربما كان أصغر من أن يتذكر أي شيء عن المذبحة أو الاختطاف. الصحيفة ذكرت معلومات أكثر عن "راميرو" مع نشر صورة له وهو يحمل بندقية، ويرتدي بزة الجيش الذي ذبح عائلته. قرأ الشاب أن المحققين يعتقدون أن الصبيين، المتشابهين بلون البشرة والعيون الخضر، قد يكونان شقيقين. على الفور تداول أوسكار الموضوع على الهاتف مع عائلته في الوطن.

أخبرته العمّة أنها مزاعم كاذبة، والأمر لا يعدو أن يكون محاولة من اليساريين لتشويه اسم جندي شريف. في ظل الصراع الإيديولوجي في غواتيمالا، كان تفسير العمّة مقبولاً. شعرت العديد من العائلات المنتسبة للجيش والأحزاب السياسية اليمينية، أن اليساريين قد شوهوا رواية الحرب الأهلية، وبالغوا في نَسْب الانتهاكات إلى القوات المسلحة، بينما قللوا من شأن العنف الذي ارتكبه رجال حرب العصابات، ولكن هذا لم يكن صحيحاً بطبيعة الحال. بعد سنوات من وقوع مئات المذابح خلال الصراع، توصلت "لجنة التوضيح التاريخي" التابعة للأمم المتحدة بشكل يقيني، إلى أن 93 بالمئة من الضحايا في غواتيمالا سقطوا على يد الجيش.

شعرت العديد من العائلات المنتسبة للجيش والأحزاب السياسية اليمينية، أن اليساريين قد شوهوا رواية الحرب الأهلية، وبالغوا في نَسْب الانتهاكات إلى القوات المسلحة

المقال الصحفي أثار شكوك أوسكار. مع ذلك بدا له بمنزلة قصة قادمة من عالم تكثر فيه الألغاز، حيث تتفوق المزاعم والشكوك على الحقائق. مع مرور السنوات، نسي الشاب العشريني أمر المقالة تقريباً. لكن بعد أكثر من عقد، تحديداً في صيف عام 2011، ستسير الحقيقة على قدميها عاريةً، لتظهر على الشاشة أمام أوسكار، فتعيده، بطريقة عاطفية عاصفة وغير مألوفة، "ألفريديتو" الصغير السمين، بدلاً من أن يكون "أوسكار".