السباحة في حزن المجزرة 1

2022.11.10 | 07:04 دمشق

السباحة في حزن المجزرة 1
+A
حجم الخط
-A

"إن أباكَ الذي تحملُ اسمه، وعشت حياتك في بيته. ذاك الرجل الذي تضع صورته في جيبك وفي صدر غرفتك، تعتزُّ به كضابط شجاع، هو في الحقيقة ليس أباك. إنه الرجل الذي اختطفك بعد أن قتل والدتك الحامل وإخوتك الثمانية. رغم صعوبة الأمر أتمنى أن يكون لديك النضج لاستيعاب ما أقوله لك".

هل بدا لكم أنني أفتتح مقالتي مستخدماً نهاية واحدٍ من أفلام "الميلودراما"؟ لكم كل الحق. فمن سيصدق أن تلك كانت قصة "ألفريدو" الحقيقية؟ كان ذاك الاقتباس تقريباً فحوى الرسالة الإلكترونية التي تلقاها ألفريدو المقيم في "بوسطن" من المدعية العامة الغواتيمالية "سارا روميرو" عام 2012، وهو بعمر 32 عاماً.

لمدة ثلاثين عاماً، اعتقدَ الفلاح الغواتيمالي "ترانكويلينو كاستانيدا" والد ألفريدو الحقيقي، أن ابنه الطفل، قُتل مع بقية أبنائه وأمهم، وأنه يرقد معهم في إحدى المقابر الجماعية. بينما اعتقد "أوسكار" وهو الاسم الذي سيحمله الطفل ألفريدو بعد اختطافه، أن الملازم الذي قتلَ عائلته واختطفه كان والده الذي مات بحادث سيارة مأساوي، عندما كان أوسكار طفلاً في الرابعة من العمر، فتابعت جدته الطيبة، ومن ثم عمّاته تربيته.

هناك في التاريخ المعاصر عشرات الحالات التي حوكم فيها المجرمون بارتكاب المجازر الكبرى، إلا أن آلافاً من القصص المخزية لإفلات المجرمين بأفعالهم تتردد في كل أنحاء الكوكب

لشدّة انشغالنا بالمجازر التي تحدث في بلدنا. وهي واحدة من أهم بلدان المجازر المتنقلة والمقابر الجماعية السرية، فإننا للأسف، وهذا يُؤخَذ علينا، لا نعرف كثيرا عما كان يحدث في الجهة المقابلة من الكرة الأرضية، وفي باقي أرجاء العالم عموماً.

بداية الشهر الحالي، وتحديداً في يوم 2 تشرين ثاني/نوفمبر مرَّ "اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين". في كل سنة، يتحول هذا اليوم، أكثر فأكثر، ليكون يوماً للمطالبة بضرورة عدم الإفلات من العقاب على الجرائم عموماً، وليس ضد الصحفيين فقط. وهي جرائم ما زالت تشكل واقعاً سائداً في كثير من دول العالم. رغم أن هناك في التاريخ المعاصر عشرات الحالات التي حوكم فيها المجرمون بارتكاب المجازر الكبرى، إلا أن آلافاً من القصص المخزية لإفلات المجرمين بأفعالهم تتردد في كل أنحاء الكوكب.

منذ نصف قرن وحتى اليوم، لم يحدث في سوريا على سبيل المثال، أن وقف أحد المرتكبين للمجازر التي عرفتها البلد خلف القضبان، ليتلقى بعدها حكماً على جرائمه أو مشاركته بالمجازر. ليس فقط مئات المجازر التي عرفها السوريون في العقد الأخير، وملأت الشاشات المحلية والعالمية. بل قبلها أيضاً، وبخاصة في ثمانينيات القرن الماضي. كانت أشهرها المجزرة الكبرى في مدينة حماة عام 1982، التي ارتكبتها قوات "سرايا الدفاع" التابعة لجيش الأسد، وقضى فيها آلاف الضحايا الأبرياء.

في عام مجزرة حماة نفسه، في الجهة المقابلة من الكرة الأرضية (هنا المقارنة نوعية وليست كمّية). متنكرون بزيّ الثوار اليساريين، تسلل عشرون عنصراً من قوات "الكوماندوز" الحكومية ليلة السادس من كانون أول/ديسمبر إلى قرية "دوس أيريس" شمالي غواتيمالا. كانت السلطات العسكرية قد اتهمت سكان القرية بالتستر على المتمردين وإخفاء أسلحة مسروقة من الجيش، وهو اتهام مُلفَّق وغير صحيح. خلال ثلاثة أيام قتلوا 250 مدنياً بريئاً من الرجال والنساء والأطفال. عدد قليل من سكان القرية الصغيرة نجوا بسبب عملهم خارج القرية، منهم كاستانيدا الأب إضافة إلى طفله "ألفريدو" الذي اختطفه الضابط أوسكار راميريز. كعادة كل الديكتاتوريات اتهمت الحكومة المتمردين بارتكاب المجزرة.

قام الكوماندوز بركل الأبواب وإخراج العائلات واعتقالها. على الرغم من أن الجنود كانوا مستعدين لمعركة مفترضة مع المتمردين، لكن فاجأهم أن لا ثوار هناك ولا مقاومة. ولم يعثروا على أي من البنادق المسروقة. جمّع الكوماندوز الرجال في مدرسة، والنساء والأطفال في الكنيسة. بدأ العنف قبل الفجر. شاهد العديد من الجنود الملازم قائد وحدتهم يغتصب فتاة أمام عائلتها. بعد القائد، بدأ الكوماندوز الآخرون باغتصاب الفتيات والنساء.

في اليوم التالي، أحضر المغاوير القرويين إلى وسط القرية، حيث يقع بئر جاف عمقه نحو 12 متراً. طمأن الجنود السكان الأسرى بأن لا سوء سوف يمسهم، وأنهم فقط سيقومون بتلقيح الأطفال كإجراء احترازي صحي روتيني. لكن سرعان ما قاموا بسحب الأطفال ورميهم في البئر. إثر الانتهاء من الأطفال، عصبوا أعين الكبار وأجبروهم على الركوع. استجوبوهم بشأن البنادق وأسماء قادة حرب العصابات. عندما أكّد القرويون أنهم لا يعرفون شيئاَ، ضربهم الجنود على رؤوسهم بمطارق معدنية ثقيلة، ثم ألقوا بهم في مقبرة البئر. أخيراً للتأكد من موتهم، ألقى جندي قنبلة يدوية فوق الجثث. بحلول عصر ذاك اليوم كان البئر قد امتلأ تماماً.

بعد الانتهاء من قتل الرجال، أحضر المهاجمون نحو 50 امرأة وطفلاً من الكنيسة، وساروا بهم نحو تلال قريبة. هناك أعدموهم بطلقة في الرأس لكل منهم. مع بداية الليل، لم يعد موجوداً في القرية سوى الجثث والحيوانات والقوات الخاصة. لكن للمفاجأة، وجد الجنود ثلاث فتيات مراهقات وصبيين صغيرين، يبدو أنهم اختبأوا في مكان ما خلال المجزرة.

اغتصب الجنود الفتيات (شقيقات ألفريدو) طوال الليل وقتلوهنَّ صباحاً. وسط دهشة الزملاء، احتفظ الملازم راميريز بالصبي البالغ من العمر 3 سنوات، أما الصبي الآخر "راميرو" وعمره 5 سنوات فكان من حصة جندي آخر يدعى ألونزو. ما أنقذ الصبيين كانت بشرتهما الفاتحة وعيونهما الخضراء، وهي سمات ثمينة في مجتمع مقسم على أسس عرقية. بعد أربعة أيام من المذبحة، قام القائد العسكري للمنطقة بنهب المركبات والحيوانات والممتلكات (ما ندعوه اليوم سورياً "التعفيش")، ثم أحرق القرية، وجرف البيوت لتستوي مع الأرض.

اعتُبر المختارون للمهمة السرية من نخبة النخبة. كان الملازم راميريز، البالغ من العمر 28 عاماً، الأكثر خبرة بينهم. اكتسب شهرة كبيرة لقسوته الشديدة. سيصفه أحد الجنود ممن خدموا معه بأنه "مجرمٌ بزيّ عسكري". قاتلَ راميريز كمرتزق في "نيكاراغوا" عام 1978، لصالح قوات الديكتاتور "سوموزا" حليف الولايات المتحدة. أطاح اليساريون "الساندينيون" بسوموزا في العام التالي، ما أثار المخاوف الأميركية، وعزز دور غواتيمالا، كحصن استراتيجي لمعركة واشنطن ضد الشيوعية في أميركا الوسطى.

ستكشف الوثائق فيما بعد أن الحكومة الأميركية كانت، كحالها في كل مكان، على معرفة تامة بكل المجازر، مع ذلك لم تحرّك ساكناً

خارج حياته العسكرية، كان راميريز ابناً مطيعاً وكريماً، يرسل المال إلى والدته كل شهر، ويصرف على تعليم إخوته. لكن الأم اشتكت على الدوام من أن الملازم لم يمنحها حفيداً. هكذا غدا "ألفريدو" بعد المجزرة، الحفيد المنتظر. أخبر راميريز أمّه أن الصبي ابنه، لكن من علاقة خارج الزواج.

بعد المجزرة، بنى كاستانيدا الأب الناجي مصادفةً، منزلاً منعزلاً وعاش وحيداً. لم يتزوج مرة أخرى. كان يشرب الكحول كل يوم "قدرَ ما يستطيع الإنسان أن يشرب" حسب تعبيره. يقول الأب المفجوع: "شربت كل يوم محاولاً إغراق حزني بالشراب. لكني اكتشفت أن الحزن كان يسبح معي طوال 30 عاماً".

ستكشف الوثائق فيما بعد أن الحكومة الأميركية كانت، كحالها في كل مكان، على معرفة تامة بكل المجازر، مع ذلك لم تحرّك ساكناً. "إن جنوداً متنكرين بزيّ المتمردين قتلوا أكثر من 200 شخص في قرية دوس أيريس". كانت تلك فقرة من تقرير أرسلته سفارة الولايات المتحدة إلى وزارة الخارجية بتاريخ 28 كانون أول/ديسمبر 1982. مع كثير من الوثائق التي تماثلها، ستبقى هذه الوثيقة سريّةً حتى عام 1998. بطبيعة الحال، تابعت أميركا دعم حكومة غواتيمالا.

في "الميثولوجيا"، تنتهي الأساطير على الدوام بتحقيق العدالة، غالباً هي "عدالة الآلهة". اليوم يكاد تحقيق العدالة، حين يحدث نادراً، يشبه الأسطورة، فيبدو أمراً غير قابل للتصديق. يحدث هذا في غواتيمالا. إنه مجرى العدالة، الذي قادت إليه شجاعة نادرة لحقوقيين من غواتيمالا، بدعم من هيئات حقوقية دولية، ليقف المجرمون أمام القضاء، ويلتقي ألفريديتو الصغير، كما كان يدعى طفلاً، بأبيه الذي سبح مع حزنه ثلاثين عاماً، حالهُ حال كل من نجا مصادفةً من مجزرة.