الركوع أو الجوع.. من بشار الأسد إلى بوتين

2022.07.12 | 06:03 دمشق

بشار الأسد وفلاديمير بوتين
+A
حجم الخط
-A

في شهر آب عام 2011م، وبعد شهرين من الحصار، اقتحم الجيش الأسدي حي الرمل الجنوبي في اللاذقية، وبعد انتهاء أعمال التفتيش والاعتقال والقتل، أُعلن عن خروج الجيش من الحي، يومها، وبعد مضي أقل من ساعة على خروج الجيش، اتصل بي صديق كان منزله في هذا الحي، ويعمل سائق سيارة أجرة، واضطر للخروج منه مع عائلته بعد أيام من بدء الحصار، كان متردداً ومرتبكاً، وهو يطلب مني أن أرافقه ليرى ماذا حل بمنزله، أدركت على الفور سبب اختياره لي، فهو يريد معرفة ما حل بمنزله، لكنه يخشى الذهاب بمفرده، ويعتقد أن منبتي الطائفي قد يحميه، وربما يساعده في تجاوز الحواجز والتعقيدات التي قد تصادفه، فوافقت على الفور. 

ما إن عبرنا الحاجز الأول عند محطة القطار، وراحت السيارة تنحدر باتجاه البحر، حتى بدأت مظاهر الحي الخارج لتوه من عملية اقتحام عسكرية تخبرنا عن حجم الخراب الحاصل، على مدخل الحي كانت تستقر دبابة توجه فوهة مدفعها باتجاه البيوت الخالية، ومن فتحة برجها المفتوحة ظهر جندي بخوذته العسكرية، وبجانبها جلس جنديان آخران على كرسيين.

كان الخوف يملأ المكان، فالشوارع الضيقة خالية تماماً من البشر، شوارع بلا أرصفة، وعلى جانبيها تراكمت أكوام الزجاج المحطم، والألواح الخشبية المبعثرة، وركام حجارة وإسمنت تساقط من شرفات أو جدران الأبنية المجاورة.

كانت السيارة تمشي ببطء، وكنا مسكونين بالرعب، ومذهولين ومفجوعين وصامتين، جدران مثقبة بالرصاص وأبواب ونوافذ محطمة، وصمت عميق، رغم أن الوقت كان بعد الظهر.

توقف صديقي أمام بناء من أربع طبقات، ثم قال بصوت منخفض: هنا بيتي، في الطابق الثالث.

تركت صديقي يصعد إلى بيته، ورحت أتفحص الطوابق السفلى، كانت أبواب الشقق محطمة، ويمكن لمن يشاء دخولها، وفي الشقتين اللتين دخلتهما، فوجئت واستغربت ما رأيته بداخلهما.

 كان عناصر النظام وشبيحته الذين اقتحموا الحي، قد رموا كل ما تحتويه البيوت التي دخلوها من مواد غذائية على الأرض، منظر المؤن المهدورة والمسفوحة، زيت، وزيتون، وبرغل، ورز، وحمص، ومكدوس، وعدس وكل ما اعتاد السوريون على تخزينه كمؤونة، كلّه مرمي على الأرض، وآثار أحذية ترتسم واضحة في كل أنحاء الشقة، بعد قليل سأنتبه إلى البرادات التي تشوّهت سطوحها بثقوب الرصاص، وإلى الخزائن والأسرّة المحطمة، وإلى النوافذ المحطمة.

كنتُ عاجزاً عن تفسير ما رأيت، وكان السؤال الذي يصفعني في كل زاوية: لماذا؟

لماذا أهدروا مؤونة البيوت، لماذا رشقوا البرادات والغسالات وكل الأجهزة الكهربائية بالرصاص، لماذا حطموا النوافذ، والأبواب؟؟!!

يومها كانت الثورة في بداياتها، ولم يكن أحد يفكر أن النظام يريد أكثر من قمع الثورة، وإعادة السوريين إلى بيت الطاعة، لكن فيما بعد وعندما بدأت تصل تفاصيل ما يحصل في كل المناطق التي تظاهرت، ستجد نفسك مضطراً للبحث عن أجوبة جديدة لما كنت تظنه واضحاً، سأسمع فيما بعد عن حصار درعا، وحصار مضايا التي تحدثت تقارير دولية أنه بعد ستة أشهر من حصار جيش النظام وحلفائه كميليشيا حزب الله، اضطر أهلها لأكل العشب والقطط من أجل البقاء على قيد الحياة، ثم حصار بانياس، وداريا، والغوطة، ثم حمص، والوعر ومخيم اليرموك و..و...

في تفاصيل كل الحصارات سنسمع قصصاً فاجعة، كنا نعتقد أن البشرية لن تعرفها إلا في الذاكرة، ولن تشهدها في تاريخها المعاصر، وسنعرف حينذاك أن النظام ومن معه إنّما يريدون ما هو أبعد من إركاع السوريين، وإخضاعهم، إنهم يريدون أن يدمّروا كل ما يمكن أن يساعد السوريين في مناطق الثورة على البقاء في مناطقهم، أي إرغماهم على النزوح.

منذ البداية، ومنذ أن تجرأ قسم كبير من السوريين على المطالبة بحياة ديمقراطية كريمة، قام النظام بانتهاج سياسة قمع أشد وحشية وقسوة، فزج الجيش في مواجهة المدنيين، واعتمد سياسة التجويع والحصار، والأشد من كل هذا أنه خطط لتهجير المواطنين من المناطق التي ثارت بوجهه، ومن ذلك الحين وسياسة تدمير البيوت، ونسف كل مقومات البقاء من مشافي ومدارس، وأفران وأسواق هي التي تحكم علاقة قوات الأسد وحلفائه بهذه المناطق، الأمر الذى تسبب في تكدّس ملايين السوريين في مناطق صغيرة حدودية.

أربعة ملايين سوري شردتهم همجية بشار الأسد، بمساعدة حلفاء لايقلون بشاعة وإجراماً، وفي مقدمتهم ميليشيات إيران الطائفية، وحليفه بوتين الذي قصفت طائراته بيوتهم ومستشفياتهم ومخابزهم، وأرغموهم على الرحيل، ولأن العالم ليس رحباً وإنسانياً بما يكفي لكي يمنع قتلهم، أو لكي يمنحهم مكاناً آمناً، فقد أغلق أبوابه في وجوههم، ليظلوا عالقين بآخر مساحة تبقيهم على قيد الحياة.

لم يقم النظام بتهجيرهم فقط، بل أفشل كل جولات التفاوض التي جرت بين النظام السوري والمعارضة تحت إشراف الأمم المتحدة، في إخراج قضية حصار المدنيين وتجويعهم من الصراع، وفي إحدى جولات التفاوض تلك صرح الوسيط الأممي المنتدب من الأمم المتحدة، وكان يومها "دي مستورا: (إن النظام السوري يرفض رفع الحصار الذي يجوع مئات الآلاف في مختلف أنحاء البلاد).

لم يكن لدى بوتين ومن معه بقية من ضمير، لتجنيب المدنيين السوريين ويلات الحرب، وراح ومن معه يقتلعون السوريين من بيوتهم وأراضيهم على مرأى البشرية كلّها، ويرمون بهم في مناطق حدودية، وفي مخيمات لاتوفر الحد الأدنى من مقومات الحياة لساكنيها، وهاهو اليوم يواصل جريمته في جلسة مجلس الأمن، المتعلقة بتدفق المساعدات لهؤلاء المحاصرين.

اليوم وفي اجتماع مجلس الأمن الأخير، والذي ناقش تمديد عمل المعابر التي تدخل منها المساعدات الإنسانية للسوريين صوتت 13 دولة بالموافقة، وامتنعت الصين عن التصويت، لكن، وببساطة شديدة، وبهدوء شديد، وبلا أي وخزة ضمير، أو أي شعور بالعار، وكما لو أنه يقرر أمراً في غاية العادية، يرفع مندوب روسيا يده واضعاً فيتو دولته على قرار مجلس الأمن، بمواصلة إيصال المساعدات لما يزيد عن أربعة ملايين سوري محاصرين في مخيماتهم.

ببساطة شديدة يبتز بوتين العالم بالتجويع، أي جريمة هذه ؟!!

فيما يخص القانون الدولي حول جريمة التجويع، لم يكن التجويع المتعمّد للمدنيين مدرجا ضمن قانون المحكمة الجنائية الدولية مثل جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ولم يكن بإمكانها مقاضاة المتسببين به، بوصفه جريمة حرب إلا حينما يكون النزاع ذا طابع دولي. لكن وفي عام 2019 تقدمت سويسرا باقتراح وافقت عليه 122 دولة، أي بإجماع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، وبفضل الاقتراح السويسري فقد تم توسيع صلاحية محكمة الجنايات، ليشمل أيضاً تجويع المدنيين في النزاعات المسلحة غير الدولية. لكن سوريا ليست من الدول الموقعة على قانون المحكمة الجنائية الدولية.