الرعب محرك التاريخ

2020.04.05 | 00:00 دمشق

41abe672-7f71-4c7a-9173-556e5b50f7aa_16x9_1200x676.jpg
+A
حجم الخط
-A

عزف الماركسيون- حتى النشاز- على مقولة: إن العنف هو محرك التاريخ الأساس، وإن الاقتصاد قاعدة التفسير وحدوده. أما الجنرال الفرنسي الشهير "ديغول" فقد رأى: أن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، بينما ذهب أنصار "دارون" إلى سحب ما اكتشفه بدراساته وأبحاثه في علم الوراثة والأحياء إلى علم الاجتماع، فقالوا بالتطور وأطواره وبأن البقاء للأفضل….

 ولم يقل أحد فكرة أن الرعب قد يكون محرك التاريخ، حتى هبط كورونا، وانتشر، فقال- وحده من قال- مشفوعاً بإمكانات الميديا كلها مدعومة بإمكانات الثورة الرقمية: إن الرعب هو عامل مهم من بين العوامل صانعة التاريخ.

لقد كان كافياً، لكي تستسلم اليابان في الحرب العالمية الثانية، أن تقصف أمريكا مدينتي "هيروشيما وناغازاكي" بقنبلتين نوويتين. ولقد كان مشهد الدمار مشهداً صاعقاً، ولقد كان الموت مرعباً، ذاك الذي راح يجتاح الجميع مثل موجة عاتية؛ فلم يكن أمام اليابان التي شهدت هذا الرعب سوى أن تستسلم.

والغريق- عادة- لا يسأل عن هوية منقذه؛ لأنه يريد الحياة فقط- لحظة مواجهة احتمال موته هو- وماعدا ذلك هو محض هراء بهراء، هذا ما تقوله البشرية كلها في مواجهة خطر فايروس كورونا اليوم، بينما ينهمك مفكرون وسياسيون واقتصاديون وعلماء اجتماع في استكشاف ملامح حياتنا- نحن الجنس البشري على هذا الكوكب- فيما بعد كورونا، أو ما بعد بعده، أو معه أو مع عائلته القاتلة التي تباغتنا بجديدها كل فترة.

ومن أطرف ما ذهب إليه ما تبقى من الماركسيين، هو قولهم: إن المهم من بين رسائل كورونا إلى البشرية هي الاشتراكية، الاشتراكية بما هي الفكرة والمآل التي يجب أن نقتنع- نحن البشر- بأنها الحل الأفضل للبشرية، وبأن لا حل غيرها؛ لأن الرأسمالية المتوحشة- كما هو مختبر ومعلوم- هي التي تقود البشرية إلى الفناء، وبالتالي: إن العالم ما بعد هذا الهلع المتفشي، سيشهد تعزيزاً قوياً لليسار في المشهد السياسي العالمي. وعلى طريقهم، لقد ذهب رجال الدين إلى القول: إن العودة إلى الدين ستكون- بمشيئة الله- السمة الأهم للبشرية بعد صدمة كورونا. بينما عارضهم بقوة من يرفعون راية العلم بما هي راية خلاص البشرية الوحيدة، وبأن ما عداه ما هو إلا محض وهم يتسلى به متخيلون حالمون، وهم- على كل حال- يدعمون رأيهم، بأن كورونا قد أثبت للبشرية كلها: أن خلاصها هو العلم، وبالعلم فقط. أما مناهضو العولمة فقد رأوا فيه نصيراً لهم في محاربتها. بينما رأى مناصروها أن كورونا قد هبّ، لكي يؤكد: أن العولمة هي الطريق الأفضل لمواجهة التحديات التي تواجه البشر من غير البشر.

أما بعد، وبعيداً عن هذه الآراء كلها، وبعيداً عن دوافعها

البشرية في مواجهة الخضات الاجتماعية القوية تجري انزياحاً شديداً باتجاه أحد الطرفين على حساب الوسط الذي يكون هو الخاسر الأكبر

وتشعباتها ومقاصدها، فإن ما يمكننا أن نلاحظه، هو: أن الهلع وحده الآن من يقذف بنا من جهة إلى أخرى، وأننا لسنا في الوقت المناسب لكي نجري تصنيفاً وتقييماً لآراء اليسار واليمين، وآراء أصحاب الله وأصحاب العلم، ومن على حافتهم أو قبلهم أو بعدهم؛ لأننا هلعون نمد أيدينا إلى من ينقذنا من هلعنا.

وكالعادة، فإن البشرية في مواجهة الخضات الاجتماعية القوية تجري انزياحاً شديداً باتجاه أحد الطرفين على حساب الوسط الذي يكون هو الخاسر الأكبر. بينما تعزز فترة الهدوء والاسترخاء نزوحاً معاكساً من الأطراف باتجاه الوسط، هذا الانزياح الذي يسببه- بشكل رئيسي- انتشار ما يمكننا تسميته تنميط الآخر؛ فالآخر لم يعد آخر محايداً أو مختلفاً؛ لأنه لابد أن يكون جواباً عن سؤال: أنت مع من؟ أو أنت ضد من؟ الذي ينفجر انفجاراً حين تكون الحرب حرب البقاء التي ترفع معدلات نزعات العداء إلى حدودها العليا؛ فتجعل من الآخر خصماً فقط، أو حليفاً فقط، وتمسي فكرة إما أن نكون معاً أو نهلك معاً فكرة بلهاء، تشبه الشعر المجرد الذي لا يحمي ولا ينقذ من جوع.

وها نحن ننعزل، وننعزل؛ فيصبح الآخر عدواً حاملاً مخاطرَ وموتاً. وها هي الدول قد أغلقت منافذها كلها: البرية، والبحرية، والجوية. وها هي العنصرية تستعيد حضورها القوي، وها هو المصاب بالكورونا يصبح لعنة، حتى لو أصيب به وهو يحاول إنقاذ الآخرين منه. وها هي السحنة الصينية قد أصبحت مصدر رعب الآخرين. وها هو السباق محموم لشراء السلع الضرورية وتكديسها. وها هي فكرة التضحية بالمسنين وبقاء الفئات العمرية الأقل تسود على الأدمغة القشرية… إلخ. هكذا إذاً: إنه البحث عن الخلاص مهما يكن ثمنه.

وإذاً، لن تكون البشرية بعد كورونا كما كانت قبله!! نعم، قد يكون هذا صحيحاً، لكن: كيف، وإلى أي حد؟

قد يكون القادم لا يزال مرهوناً إلى حد كبير بالقادم من زلزال كورونا، وقد نكره أن نقول: إن اللاجئين سيكونون من الفئات التي ستزداد معاناتهم، والمجتمعات التي كانت ترحب باللاجئين، ثم انتقلت بموقفها إلى الحياد، ثم انتقلت إلى رفضهم، قد تنتقل إلى العداء، وقد يزداد العداء لهم، هذا العداء الذي سينمو بالتوازي مع صعود فكرة القوميات مرة أخرى، مع ما يعنيه صعود القوميات من احتمالات ظهور الفاشيات مرة أخرى.

وليس تنجيماً أن نقول: إن الفئات ذات الدخل المتدني ستزداد فقراً، مع ما يعنيه هذا من تراجع في البرامج الاجتماعية التي كانت تدعم هذه الشرائح؛ بسبب تقدم البرامج السياسية التي ترفض تحميل الشرائح الأكثر غنى عبء المشاركة بتخفيف معاناة الآخرين.

لكن الأهم من كل هذا، هو: احتمال انتعاش الاستبداد والأنظمة الاستبدادية وتراجع الحريات، وخصوصاً في المجتمعات والدول التي لم تتكرس فيها الحريات كحق لا يمكن انتزاعه من أي أحد.

أما الفجيعة الكبرى فهي التي ستعصف بمجتمعاتنا العربية، هذه المجتمعات الهشة على كل الأصعدة، وهي المفخخة بألغام لا عد لها ولا حصر، وهي القابلة للتقسيم والتنميط والتصنيف بألف وجه ووجه، فهل يعود فيها زمن العصبيات والطغيان وتعزيز استباحة الآخر؟

 نعم، لقد وضعنا فايروس كورونا، هذا الكائن الغامض البالغ الضآلة أمام أسئلة بالغة الصعوبة، مع أن البشرية لا تزال تتغاضى وتتجاهل الأسئلة الملحة إلى حد النسيان، من سؤال البقاء إلى سؤال كيف سنبقى وإلى أين سنمضي؟

أما نحن، فإننا ننتظر كورونا؛ لكي يفتي لنا: أي فرقة هي الفرقة الناجية من بين فرقنا التي لا حصر لها؟

كلمات مفتاحية