الرسالة التي قتلت عدنان عقلة

2020.12.20 | 23:02 دمشق

302.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد أيام على مصرع النقيب إبراهيم اليوسف، مدبّر عملية «مدرسة المدفعية»، كان على شريكه في التخطيط لها وتنفيذها، قائد «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» في حلب، عدنان عقلة، أن يكتب رسالة طويلة لقيادة الإخوان، أو ما كان يعرف بالتنظيم العام، في الخارج. وقد فعل ذلك بأكثر ما يحتمل الوضع من شدة وقسوة، مازجاً النقاش بالتقريع والسخرية.

الرسالة، التي ينقل أبو مصعب السوري نصها وصورة عنها في كتابه الذائع «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا»، مؤرخة في 11 حزيران 1980. وهي تصلح أن تكون تعريفاً عاماً بكاتبها؛ تكوينه وأفكاره، وبتنظيمه، خاصة مجموعته الحلبية، ونقاط خلافه الأبرز مع جماعة الإخوان الأم.

ترسم عتبات الرسالة مسارها العام. فهي موجهة من «جندي من جنود الطليعة المقاتلة الممثلة الحقيقية للإخوان المسلمين» كما يقول عقلة في التوقيع، إلى «قيادات ما وراء الحدود» كما يرد في العنوان الصدامي. فيما تتكرر كلمة الحدود فيها 12 مرة، لترسم خطاً حاداً يفصل بين عالمين، «ميداني... [هو] حديث الدم والرصاص والشهداء والمعتقلين والمطلوبين، حديث الثكالى والأرامل واليتامى والمعذبين»، وعالم مفرداته هي «الزوجات والأطفال والمال الكثير والسيارات الفارهة.. من وراء الحدود» التي لن تتجرأ القيادة حتى على الاقتراب منها، ولم ترسل أحداً من أبنائها الشبان لعبورها، ولا حتى محازبيها. ومن هنا فإن عقلة يقرر أن أفراد «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، التنظيم المستقل الذي نشأ على يد مروان حديد في 1975، هم «الممثلون الحقيقيون للإخوان المسلمين على طريق البنّا وقطب». عندما كان الإخوان من التنظيم العام يوغلون في أوحال الانتخابات، طموحاً في دخول مجالس الشعب أو الإدارة المحلية وأداء القسم الجاهلي للدفاع عن «أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية».

مع غياب وثائق نظرية أو شرعية صادرة عن تنظيم الطليعة، تدل هذه الإشارات إلى انتمائها إلى المخاض الذي أطلقته أفكار سيد قطب داخل الإخوان، والذي جرت محاولة تطويقه بكتاب «دعاة لا قضاة» الذي صدر باسم المرشد حسن الهضيبي في مصر. ما أفلح في المحافظة على تماسك التنظيم وتصويب مساره هناك، وفتح الباب، في الوقت نفسه، لظهور تنظيمات ما بعد إخوانية كالجماعة الإسلامية والجهاد وجماعات أقل شهرة. إلى فضاء السبعينيات هذا تنتسب «الطليعة». ولا يمكن فهمها إلا بالمقارنة بشقيقاتها في القاهرة؛ كمرحلة وسيطة بين الإخوان والسلفية الجهادية. وإذا اتضح هذا في التجربة المصرية بحكم الأعمار المديدة التي أتيحت لتنظيماتها العنفية الإسلامية، حتى شارك أحدها في تأسيس تنظيم القاعدة وأصبح قائده، أيمن الظواهري، أميرها؛ فإن عدداً من الأفراد الذين نجوا من انهيار تنظيم الطليعة السوري وجدوا طريقهم إلى أفغانستان.

ولكن فلنعد إلى الرسالة في 1980، عندما يكتب عقلة أن في تنظيمه «السلفي والصوفي والإخواني»، معتبراً ما كان يجري «ثورة» إسلامية تستلزم استقطاب إمكانات الجميع، بمن فيهم جناحا الإخوان السوريان المنقسمان وقتئذ بين حلبيين وشوام، اللذين سعى القائد السابق للطليعة ومؤسسها الفعلي، عبد الستار الزعيم، إلى توحيدهما ففشل وقال، في لقاء جرى قبيل مقتله: «إنني أدعو الله أن يجمعهم في جهنم إذا أبوا الاجتماع في الدنيا».

منهج الإخوان السلمي لم يحقق خلال «خمسين عاماً» سوى «الذل والقهر والسوق إلى السجون والزنازين.. كالنعاج!!». مستثنياً من ذلك ثلاثة فقط؛ حسن البنا وسيد قطب ومروان حديد

يبدو اضطراب الهوية الإخوانية في رسالة عقلة. فأحياناً يقرر أن الطليعة هي الممثل الشرعي للإخوان. وأنها، بصفتها هذه، قررت أن «الجهاد في بلاد الشام فرض عين» لا عذر لمسلم بالتقاعس عنه. وأن من غادر البلاد دون إذن من قيادتها «متولٍ من الزحف يحتاج إلى توبة». وحيناً يوجّه إلى الإخوان انتقادات جذرية تشبه ما تقوله الجماعات الجهادية، والسلفية الجهادية لاحقاً، من أن منهج الإخوان السلمي لم يحقق خلال «خمسين عاماً» سوى «الذل والقهر والسوق إلى السجون والزنازين.. كالنعاج!!». مستثنياً من ذلك ثلاثة فقط؛ حسن البنا وسيد قطب ومروان حديد، الذي فصلته الجماعة كما فصلت عقلة وآخرين من منتسبي الطليعة.

ما الذي تريده الرسالة إذاً، طالما أن أمل كاتبها شبه معدوم في أن تتخلى القيادات التقليدية عن أمانها وكراسيها في الخارج؟ يوضح عقلة: «تعاملنا معكم، لم يكن إلا مالياً، والعلاقة بيننا حتى الآن، لم تكن لتتجاوز هذه الحدود... ولا يمكن أن تكون أبعد من هذا، طالما أنكم لا تزالون تصرون على البقاء في أبراجكم العاجية». ما يطلبه قائد الطليعة في حلب هو «أموال المجاهدين» التي تهاطلت على الإخوان السوريين في الخارج من كتل إخوانية وغير إخوانية في أنحاء العالم. إذ إن «حركة الجهاد في سوريا، استنفرت همم المسلمين، وهي وحدها، وليس الإخوان كما تتوهمون.. والذين يتبرعون بأموالهم بسخاء يتبرعون للمجاهدين وللمجاهدين فقط مهما تكن اللافتة التي يحملونها.. تماما كتبرعهم للمجاهدين الأفغان».

صرّح الإخوان مراراً أن ما وصلهم من المال كثير، كما قال موفدهم إلى حلب وقتئذ علي صدر الدين البيانوني

يعدد عقلة احتياجاته. «فتسليح واحد من المجاهدين ببندقية روسية، ومسدس عادي، وذخيرتهما، يكلفنا عشرة آلاف ليرة سورية»، و«شراء قاعدة واحدة لإيواء مجموعة مقاتلة، يكلفنا ما لا يقل عن مائة ألف ليرة»، ومجموع ما يتطلبه شهرياً لا يقل عن مليوني ليرة. وقد صرّح الإخوان مراراً أن ما وصلهم من المال كثير، كما قال موفدهم إلى حلب وقتئذ علي صدر الدين البيانوني. لكن ما يدخل منه شحيح و«يأتينا بالقطارة»، كما يكتب عقلة الذي يعقب «إن المال الذي يتدفق عليكم كالسيل، ولا أدري أين تبعثرونه.. أمانة في أعناقكم، وسنسألكم عنها». فمستحقوه هم «المقاتلون الصامتون البعيدون عن الأضواء والضجيج الإعلامي الزائف»، فيما يتحين آخرون فرصة «الاغتراف من الطعام الناضج، وبناء الأمجاد على دماء الشهداء».

في العام التالي سيخوض عدنان عقلة تجربة مرّة سجّل خلاصتها في ست ساعات على أشرطة كاسيت مشهورة جرى تفريغها كتابياً. فقد كلّفته القيادة المركزية للطليعة، والتي كانت في حماة تاريخياً، بعبور الحدود للتفاوض مع جناحي الإخوان؛ التنظيم العام بقيادة عدنان سعد الدين والجناح الدمشقي برئاسة عصام العطار، وسواهم من قيادات العمل الإسلامي. كان 1981 «عام الوفاق» نسبة إلى القيادة المشتركة التي جمعت الأطراف الثلاثة، ولكنها لم تكن فاعلة إلا في الاجتماعات وبناء التفاهمات ثم ترقيعها أو استبدالها. وانهار الوفاق في الشهر الأخير من العام بينما كانت معركة حماة تلوح في الأفق دون التمكن من تقديم دعم خارجي لها. وبعد إخماد حركة التمرد الحموية في شباط 1982 لم يعد للطليعة وجود مؤثر داخل البلاد، فقد سبق ذلك تدمير قواعدها في حلب، ودخل تنظيمها الدمشقي المنحسر عددياً في حالة سبات، وكان القضاء على مجموعاتها الأصغر في مدن أخرى كحمص وإدلب واللاذقية أسهل. وأصبح من تبقى من أفرادها، وعلى رأسهم عقلة، من «مجاهدي» وراء الحدود!

طيلة عام آخر سيحاول أبو عمار، الذي صار بأنياب قليلة واهنة، أن يجمع ما استطاع من قواه، فسافر إلى بلدان متعددة للمّ أشلاء مهجري الطليعة. وتحت وطأة شعوره بالتقصير والذنب ونفوره من الاستسلام إلى الحياة الآمنة في الأردن، حيث أقام مع زوجته وأولاده، أصبح فريسة جاهزة لمخبر دسّته المخابرات العسكرية، جاهد دندش الذي أقنع عقلة أن لديه من الإمكانات بريف إدلب ما يكفل إعادة بناء «العمل». بدأ استدراج التنظيم فدخلت مجموعة منه واعتقلت على الفور وأُجبرت على كتابة طمأنة لقيادتها. لم يكن عقلة، أسير رسالته لقيادات ما وراء الحدود، ينتظر خبراً أكثر من هذا، فسارع إلى قيادة مجموعة عبر بها الحدود التركية السورية تهريباً. وهكذا ألقي القبض عليه بمجرد دخوله، وما زال مصيره «مجهولاً».

كلمات مفتاحية