الذئبُ السوريّ المنفرد

2022.05.11 | 06:46 دمشق

thumbnail_sjwn.jpg
+A
حجم الخط
-A

يأتي فيديو مجزرة "حيّ التضامن" ليعيد لذاكرتنا حادثة "الهولوكوست". تلك المحرقة التي ارتكبها النظام النازي في حقّ الأعراق المختلفة عن الجنس الآري، بداية من اليهود وغير الجرمان وحتى المعاقين والضعفاء. وبرغم اختلاف السياق التاريخي والجغرافي والسياسي، فإن الشاب الغرّ الخارج من الظلّ، والمجلّل بنوعٍ من القلق والشك والارتياب، سيسعى دوماً لإثبات نفسه بعد تسلّمه الحكم، والخروج من عباءة والده بشكل حازم، عبّر عنه مرّة بأمره أحد الإعلاميين ألاّ يقول مجدداً إن "حافظ الأسد أعظم زعماء العرب في التاريخ"، لأن هذا "الأعظم" يمارس سياساته الآن من القصر الجمهوري في المزة.

وعليه تبنى الأسد الابن سياسة الرعب التي اشتهر بها زعيم النازية الشهير، ليضيفَ "الهولوكوست السوري" إلى قائمة مجازره العديدة. ولا شك أن الدافع الأولي لممارسة كل هذا التوحش ضد السوريين يعود إلى هواجس السلطة الحاكمة بأنها غير شرعية، ولا تحظى بالتأييد الضروري لبقائها، وكلما زاد الرفض الاجتماعي لها ضاعفت وتيرة العنف والاستبداد. بدلالة أنّ النظام السوري لم يكتفِ بالقتل بالطائرات والبراميل والأسلحة الكيماوية، بل هناك مجازر تجري بصمت في سجونه، تكشف عنها بين الفينة والأخرى تقارير منظمات حقوقية دولية، وحكومات غربية.

ثمّة أسئلة جمّة عن مصير جثامين المعتقلين تستعر كلما وردت شهادة من معتقل ناج، أو تسرب مقطع معين أو وثيقة ما، ولكن كلّ ذلك لم يكن سوى قطرة في بحر

تخيلوا معي عِظَم الأمر: لكثرة أعداد التصفيات بحقّ المغيبين قسراً في سجون الأسد، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ستيورت جونز، كشف أن النظام المستبدّ نصب "فرناً" لحرق جثث قتلى سجن صيدنايا، للتخلص من الأدلة على جرائمه. ورغم فظاعتها وكثرة الشهادات المتقاطعة حولها، لم تلق جرائم حرق السوريين سوى اهتمام هزيل من المجتمع الدولي، الذي ثار لاحقاً لجريمة حرق طيار. وفي الحقيقة ثمّة أسئلة جمّة عن مصير جثامين المعتقلين تستعر كلما وردت شهادة من معتقل ناج، أو تسرب مقطع معيّن أو وثيقة ما، ولكن كلّ ذلك لم يكن سوى قطرة في بحر، يدرك السوريون بتجاربهم مدى اتساعه وعمقه وظلمته، حتى وإن لم يعاين بعضهم حدوده بشكل واضح.

بالتساوق مع الرعب المذكور آنفاً، وبدءاً من آذار عام ٢٠١١، وفي مواجهة التحدّيات غير المسبوقة، عَمَد الأسد إلى إصدار قرارات العفو بوتيرة متزايدة. وبعد عشر سنوات، بلغ عدد مراسيم العفو العام التي وقّع عليها (١٧) مرسوماً، قُدّمَت على أنها "عنصر أساسي في السياسة الداخلية" في زمن الحرب. وكانت هذه القرارات جزئية أكثر مما كانت شاملة، إذ إنها ألغت بمفعول رجعي المسؤولية القانونية المُحدَّدة سابقاً فقط لمجموعة متنوّعة من الجرائم، كالفرار من الجيش، أو الهروب من الخدمة العسكرية. وحقيقة لا يكشف نصّ المراسيم عن النيات الكامنة خلفها، ولكن لمّا وضعناها في الترتيب الزمني مقابل مراحل مختلفة من الصراع، كشفت لنا أنماطاً متنوّعة من الاستخدام. فقرارات العفو هذه قد تكون تدابير متأخّرة للتغطية على عِظَم المحرقة السورية أو لاسترضاء المتظاهرين. والأهمّ محاولة خادعة لتسميم المعارضة بالتطرّف، فمن السجناء الذين أُفرِج عنهم سجناء صيدنايا الأكثر تطرّفاً: جهاديون سلفيون انضمّوا فوراً إلى الثورة السورية، وساعدوا في إنشاء وقيادة الجماعات المتمرّدة المهيمنة.

وقد أدرك العديد من المحلّلين، وإن على نحو متأخّر قليلاً، أن تلك الإجراءات كانت من استراتيجيات النظام لتخريب انتفاضةٍ سلمية، فالنظام السوري أراد بالفعل التخلّص من المعارضة المدنية، وعمل منذ ثمانينيات القرن الماضي على سجن إسلاميين ثم إطلاق سراحهم متى كان ذلك يخدم مصالحه. ولا يخفى على أحد رعايته الجهاد والتلاعب به، واضعاً نفسه موضع البديل عن الفوضى والتطرّف.

في سياق متصل ومثلما جرت العادة في العقود السابقة، مُنِح العفو العام أيضاً في المناسبات ذات الأهمية الوطنية أو الأعياد. وفي وقت كانت فيه قوات النظام السوري تخسر أراضيَ واسعة لصالح الثورة المسلحة، استُخدمت مراسيم العفو أداةً لإبراز سيادته وقوته. ثمّ إن هذه المراسيم، التي أشادت بها وسائل الإعلام الموالية على أنها أمثلة على حكم الأسد "الرؤوف"، شكّلت دعاية رخيصة لعبادة الشخصية المتمحورة حول الرئيس. ولن يكون آخرها بالطبع إصدار مرسومٍ يتلاعب مجدداً بالصدمات والمشاعر الوطنية، والذي قضى "بمنح عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل 30 نيسان أبريل عام 2022، عدا التي أفضت إلى موت إنسان والمنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب".

يرى البروفيسور في علم النفس، فتح علي موغدام، أنّ بشّار الأسد وأمثاله من الديكتاتوريين يمثّلون حالات خاصة من القَتَلة الجماعيين، ويُطلق عليهم اسم "الذئاب المنفردة"

وبحسب منظمات حقوقية، جرى الإفراج عن أكثر من (250) معتقلاً بموجب مرسوم العفو، بعضهم خرج من سجن صيدنايا الذائع الصيت. الخبيث في الأمر مجيء العفو الرئاسي بعد نشر صحيفة "غارديان" البريطانية ومعهد "نيولاينز" مقاطع فيديو مروّعة، تظهر تصفية عشرات الأشخاص على أيدي عناصر من القوات الحكومية في حيّ التضامن بدمشق.

يرى البروفيسور في علم النفس، فتح علي موغدام، أنّ بشّار الأسد وأمثاله من الديكتاتوريين يمثّلون حالات خاصة من القَتَلة الجماعيين، ويُطلق عليهم اسم "الذئاب المنفردة". وعليه فإنَّ هذا النوع من القتلة يعيشون داخل نظام إدراكي خاص في عقولهم، يبنون عالماً منعزلاً لأنفسهم، ويُؤمنون بأنهم يُنقذون المجتمع من خطر محدق، وأنّ القتل فعل مبرّر سيصب في صالح الناس في نهاية المطاف. بشكل ما، وإبان كلّ مرسوم عفو يصدر، أو مجزرة مغيّبة تتبدى للعيان، أو سماع قصص تعذيب مروعة عن معتقلين محتجزين تحت الأرض، تتكشف شخصية جديدة من شخصيات الأسد. فمقابل خطاب: الشخصية العصرية الخجولة التي لم نتخيّل أنها ستتمكن من الوقوف في وجه طوفان الربيع العربي، نجد خطاب: الشخصية الوحشية المتصلبة.. ديكتاتور "منفرد" مستعد لتجاوز أبعد حدود الوحشية للحفاظ على الوضع القائم، والتي لم يكن أقلّها استخدام الأسلحة الكيماوية التي أدت إلى مقتل آلاف المدنيين، ثم القول بكل هدوء بأسلوبه المعتاد إنها "مفبركة ١٠٠٪". أو قتل عشرات آلاف الأطفال الذين يمكن أن يؤرّقوا تفكير أي إنسان طبيعي بقوله حين سُئل عنهم- ضاحكاً: "نعم أنام وآكل جيداً وأمارس رياضتي وعملي بشكل معتاد".

ربما لا يبدو هذا استثناء فارقاً في عالم الطغاة، لكن الفارق أننا نتحدث عن سيرة إنسان عادي جداً، لا تبدو عليه أي ملامح سريرية نفسية لافتة، ظاهرياً، ولكن هذه الشخصية عندما باتت في موضع السلطة، أصبحت خطرة جداً، وأسفرت عن إرادة غير عادية تجاه التدمير والقتل. هذا الفصام الرهيب يؤكده ديفيد ليش، المؤلف والأستاذ المتخصص في التاريخ وسياسة الشرق الأوسط، وصاحب كتاب "أسد دمشق الجديد" الصادر عام ٢٠٠٥، والمبني على ساعات مطوّلة من المقابلات، والذي قال إنه تواصل مع بشار الأسد بعد إعادة انتخابه عام ٢٠٠٧، عبر انتخابات مزوّرة تُديرها أجهزة المخابرات بحسب ما هو معروف للجميع، سائلاً إيّاه عن رأيه في فوزه الكاسح، فأجابه الأسد وبكل ثقة: "بالطبع سأفوز، هذا لأنّ الناس يحبونني"، مع تأكيد المؤلّف على أنه لم يكن يكذب، بل كان مقتنعاً تماماً بأنّ الناس يحبونه بالفعل، في حين تبدو المفارقة الحقيقية في قناعة الأسد أن الغالبية الساحقة ممن يسمّيهم بالإرهابيين هي من السوريين، السوريين ولا أحد غيرهم، في حين لم تأتِ القوات الحليفة لحماية الشعب من الإرهاب المتطرف، وإنما لحماية الرئيس من الشعب الإرهابي!.