الدين في السياسة: حدود الدين في المجال العام وديمقراطيات معكوسة

2020.07.20 | 00:00 دمشق

ghlaf_alktab.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقدّم كتاب "الدين في السياسة: جوانب دستورية وأخلاقية" نقاشاً معمّقاً حول دور الدين في الأحكام السياسية والدستورية، إذ ينطلق من أنَّ الأفعال توصف أولاً بأنها أخلاقية أو غير أخلاقية، وعليه تشرعن الدولة أو تجرّمها. وقد صدر عام 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر بترجمة عربي ميقاري. يدير الكاتب مايكل بيري حواراً مميزاً يحاول فيه اكتشاف مناطق الاتصال والانفصال بين التقييم الأخلاقي "العلماني" للسلوك البشري، والتقييم الديني له. وينطلق بيري في دراساته من خبرة عملية اكتسبها عندما عمل في منتصف السبعينيات ككاتب قانون للقاضي جاك وينشتاين، وبعد ذلك لقاضية الدائرة الأميركية شيرلي هوفستدلر، ثم خبرة أكاديمية في تدريس القانون في اثنتي عشرة جامعة أميركية، إضافة إلى تقديمه عشرات المؤلفات في حقوق الإنسان والقانون ومساهمات جادة في نظرية العلمنة الأميركية منذ كتابه الأول "الدستور والمحاكم وحقوق الإنسان" الصادر عام 1982، حتى كتابه "الأخلاق السياسية العالمية: حقوق الإنسان والديمقراطية والدستورية" الصادر عام 2017م.

اختار مايكل بيري الولايات المتحدة الأميركية نموذجاً لدراسته، ذلك أن علمانية الولايات المتحدة أحد أكثر أنماط العلمنة تداخلاً وتعقيداً نظراً لارتفاع نسبة التدين فيها، كما يصفها عزمي بشارة في الدين والعلمانية بأنّها: "تشكل مصدر التعقيد الرئيس لنظرية العلمنة، باعتبارها دولة علمانية المؤسسات، وبنيتها الدولتية معلمنة. لكن لم تنتشر فيها تقاليد أيديولوجية علمانية ذات جذور حقيقية وينتشر فيها التدين بشكل استثنائي بالنسبة إلى دولة ديمقراطية علمانية". يفتتح بيري كتابه بذكر بعض الأرقام اللافتة، فينقل عن بعض الاستطلاعات أنَّ 95 في المئة من السكان يؤمنون بالله، وينتمي اثنان من كل ثلاثة أميركيين إلى كنيسة، بينما يعتبر 37 في المئة أنفسهم "مسيحيين ملتزمين".

أمّا في الحياة السياسية الأميركية فتظهر أهمية الدين من خلال استخدام الخطاب الديني في الحملات الانتخابية وغيرها، ويظهر في صورته الأوضح في كتاب "تجرّؤ الأمل" للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في قوله: "إن الديمقراطيين لم يدركوا أهمية الدين في صوغ آمال الناس وأحلامهم ومواقفهم وآرائهم وأخلاقياتهم في الولايات المتحدة، وتركوه حلبة لخطاب اليمين ونشاطه. وسوف يكون عليهم أن يخاطبوا هذا الجمهور باللغة التي يفهمها".

الدستور الأميركي

يحمي القانون الدستوري المعلمن في الولايات المتحدة حرية الدين وذلك استناداً إلى التعديل الأول الذي ينص على قاعدتين مركزيتين: الأولى، أنه لا يجوز للحكومة أن تؤسس لدين ما "أو تدعمه" وتسمى هذه بقاعدة "عدم التأسيس". والثانية أنه لا يجوز للحكومة منع ممارسة الدين، وتسمى قاعدة "حرية الممارسة".

ينطلق الباحث في نقاش القضايا بطريقة التساؤل وعرض الإجابات المختلفة، مبتدئاً بسؤال: هل تضمُّن الدستور الأميركي قاعدة "حرية الممارسة" أمر جيد؟ ويجيب قائلاً: "أمر سيئ ورهيب أن تترك الحكومة في الولايات المتحدة حرة في التمييز ضد دين أو أديان عديدة أخرى.. ولو حصل سيكون فعلاً تسلطياً أو شمولياً في دوافعها، ومشتتاً للشمل، وفي بعض الأحيان مسبباً للاضطرابات". ويصف قاعدة عدم التأسيس بأنها ليست جيدة للملاحدة واللاأدريين فقط، بل جيدة للجميع، إذ لا تحمي حرية الدين فحسب، بل تحمي الدين نفسه كذلك، فالفصل بين الكنيسة والدولة هو أعظم حامٍ للإيمان الحق، وليس مُعرقلاً له.

يناقش مايكل بيري أربع قضايا أثارت الانتباه خلال الخمسين سنة الماضية، وشكّلت صراعات حقيقية داخل الولايات المتحدة، وهي صراعات مشحونة سياسياً تتعلق بقاعدة عدم التأسيس: أ- الصلاة في المدارس العمومية. ب- إظهار الحكومة للرموز الدينية. ج- التطور وعلم الخلق. د- مساعدة الحكومة للمدارس ذات الانتماء الديني. ونأخذ الأخيرة نموذجاً في مقالتنا.

يتساءل بيري: هل يعتبر دعم الحكومة للمدارس ذات الانتماء الديني خرقاً لقاعدة عدم التأسيس؟ ويجيب إن الأمر يتوقف على السؤال الآتي: هل هذه المساعدة مقدمة فقط للمدارس غير العمومية التي لها انتماء ديني؟ أم هي مقدمة لكل المدارس غير العمومية؟

يتساءل بيري: هل يعتبر دعم الحكومة للمدارس ذات الانتماء الديني خرقاً لقاعدة عدم التأسيس؟ ويجيب إن الأمر يتوقف على السؤال الآتي: هل هذه المساعدة مقدمة فقط للمدارس غير العمومية التي لها انتماء ديني؟ أم هي مقدمة لكل المدارس غير العمومية؟ فإنْ كانت تقدّم للأخيرة، فإن الأغلبية العظمى لهذه المدارس تنتمي إلى الرومان الكاثوليك، وهو ما يطرح سؤالاً آخر: هل كان برنامج المساعدة مبنياً على الاعتقاد أن العقيدة الرومانية الكاثوليكية هي "بوصفها ديانة" أفضل من دين آخر، ليتم تقديم الدعم لها، أم لا؟ يقول بيري إن ولاية "إلينوا" في مدينة شيكاغو مثلاً قد تكون مقتنعة بتوفير حد أدنى من المساعدة المالية لكل المدارس الابتدائية والثانوية غير العمومية؛ لأن تلك المدارس تعيش أولاً مشكلات مالية وثانياً تستقبل الأطفال من الأحياء الفقيرة. ويستنتج أن مطالبة الحكومة بعدم تقديم المساعدة المالية للمدارس ذات الانتماء الديني -حتى لو كانت معايير تقديم المساعدة معايير محايدة دينياً- يعني القول إنه على الحكومة "التحيز ضد الأنشطة الدينية". وذلك يكون خرقاً لقاعدة حرية الممارسة، فهذه الأخيرة مبنية تماماً على قاعدة عدم التأسيس.

وبهذا تمثّل القاعدتين طائراً بجناحين، فتطالبان "الدولة بأن تكون حيادية في علاقاتها بجماعات المؤمنين وغير المؤمنين، ولا تطالبانها بأن تكون خصماً لهم، فسلطة الدولة لن تستعمل لا لعرقلة الديانات ولا للتحيز لصالحها".

الأطروحات الدينية ومسائل أخرى

طوال رحلة الكتاب تتكرر عبارتان أساسيتان هما "الخيارات السياسية" والتي تعني تلك الخيارات التي تمنع أو تتحيز ضد نوع من السلوك البشري بناء على الاعتقاد بأن هذا السلوك هو سلوك غير أخلاقي، وقانون منع الإجهاض هو نموذج على هذا النوع من الخيار السياسي.

والعبارة الثانية هي "الأطروحات الدينية" ويقصد بها الطرح الذي يفترض مُقدماً الصحة في معتقد ديني، ويعتبر أن هذا المعتقد هو أحد منطلقاته الأساسية لتبنّي خيارٍ سياسيٍ ما، ورفض المثلية الجنسية نموذج على الطرح الديني.

يقسم الباحث الخلاف حول الدور المناسب للطرح الديني في السياسة إلى مبحثين: الأول: الخلاف حول دوره من الناحية الدستورية، والثاني: عن دور الدين من الناحية الأخلاقية.

أولاً: هل يعتبر المُشرع أو موظف رسمي آخر أو حتى مواطن عادي، منتهكاً لقاعدة عدم التأسيس إذا ما عرض طرحاً دينياً خلال نقاش سياسي عام؟ ويجيب مايكل بيري في أن كل مواطن بغض النظر عن موقعه هو من الناحية الدستورية حرّ في أن يعرض في النقاش السياسي العام أي طرح عن الأخلاق حتى لو كان طرحاً مؤسساً على الدين. وإن ازدراء الأطروحات الدينية مقارنة بالأطروحات العلمانية سيكون خرقاً لقاعدة الممارسة الحرة. ولكن هل يصح للحكومة تبني هذا الرأي أيضاً؟ إن قاعدة عدم التأسيس تمنع الحكومة من بناء خيارات سياسية على أطروحات دينية بما في ذلك الخيار السياسي المتعلق بأخلاقية السلوك البشري، ولكن تشترط القاعدة في أن تقوم الحكومة بتبني الخيار السياسي الذي يقدم طرحاً على أساس علماني، أي طرحاً لا يستند إلى أي معتقد ديني. ولكن من ناحية أخرى، فيمكن تبنى الخيار السياسي المبني على الطرح الديني إذا وُجد أساس منطقي علماني يدعم الطرح الديني.

ثانياً: لا يعارض مايكل بيري تقديم الأطروحات الأخلاقية المبنية على أساس ديني في النقاش السياسي العام، بل يدافع بشدة عن الحق في تقديم تلك الأطروحات، ففي "مجتمع متدين بشكل كبير كما في الولايات المتحدة، يجب أن ندعم مثل تلك الأطروحات الصادرة من ثقافتنا العامة.. فكثير من المنطلقات الأخلاقية الأساسية المشتركة في التقاليد اليهودية والمسيحية لا تزال تشكل الأفق الأخلاقي الأساسي لمعظم الأميركيين، وأكثر بكثير من المنطلقات الكانطية أو النيتشية.. فبحسب جون كولمان: "يمكن القول إن موروث ديانة الكتاب المقدس هو أقوى المصادر الرمزية وأكثرها إقناعاً للأخلاقيات العامة في الولايات المتحدة".

ومن خلال ترحيب بيري بالطرح الديني يمارس خطاباً مضاداً حول الأطروحات العلمانية بالقول: "الخطاب الأخلاقي المبني على الدين ليس دوماً طائفياً أكثر من الخطاب الأخلاقي العلماني؛ بل يمكن أن يكون أقل عنصرية".

ختاماً: ربما يكون من الغريب أن نرى هذا النوع من الطرح في بلد علماني ومن رجل أكاديمي، ولكن المتتبع للأكاديميا الغربية في العقود الأخيرة يلاحظ عودة قوية لدعم حضور الدين في المجال العام، بعدما وجد الغرب نفسه في مأزق أخلاقي لا يمكن فك اشتباكاته إلا بالترحيب بحضور الدين.

الأشد غرابة هو أن طرح قضايا المثلية الجنسية في النقاش الغربي -والتي استعرض الكتاب بعض جوانبها- يعدُّ مرحلة متأخرة جداً، إذا وضعنا في ذهننا المسيرة الطويلة التي خاضتها المجتمعات الغربية في نضالها منذ الثورة الفرنسية

لكن الأشد غرابة هو أن طرح قضايا المثلية الجنسية في النقاش الغربي -والتي استعرض الكتاب بعض جوانبها- يعدُّ مرحلة متأخرة جداً، إذا وضعنا في ذهننا المسيرة الطويلة التي خاضتها المجتمعات الغربية في نضالها منذ الثورة الفرنسية، ابتداءً من حسم مسألة الدولة وسيادتها واستكمال التجربة الديمقراطية ومأسستها، والحصول على حقوق المواطنة، بينما يتعجّب المتابع من استحضار تيار عربي للخيار العلماني (بدون ديمقراطية) في تبرير المثلية الجنسية الآن، وفي مجتمعات أكثر تديناً من الغرب وأكثر وضوحاً وصرامة في النص الديني، وفي الوقت ذاته لم تحسم القضايا الكبرى: قضية الدولة واستبدادها، والعلاقة بين السلطة والمجتمع من ناحية، ودور الجيش في الحياة السياسية والمدنية من ناحية أخرى، أو ضمان الحقوق السياسية والطبيعية للمواطنين، وبناء الهوية الوطنية، وإنهاء حمّام الدم في العالم العربي، وحالة التشرذم والتفكك في النظام الرسمي العربي، واجتراح الحلول لإنهاء الصراعات الطائفية والعرقية، فضلاً عن مواجهة تمدد إسرائيل التي أصبح وجودها مع مرور الوقت أمراً عادياً بالنسبة لكثيرٍ من العرب. إن استيراد الخطاب الحقوقي والعلماني من الشعوب الأخرى يجب أن لا يراعي فقط الاختلافات الثقافية والسياقات الاجتماعية، بل يجب كذلك أن يراعي المرحلة الزمنية ومدى تطوّر التجربة العربية مقارنة بالتجارب الأخرى.

إنّ إثارة تيار معيّن لصراعات القرن الحادي والعشرين في بلدان ما زالت تراوح مكانها منذ معاهدة سايكس بيكو مطلع القرن العشرين، يوحي للمتابع بأنَّ هذا التيار ربما لا يعرف شيئاً عن تاريخ الديمقراطية الغربية وصيرورة العلمنة التي كان تيار رئيسي ومهم في تاريخها يدافع عن الدين والتدين بوصفه الأساس للأخلاق العامة كما عند فولتير رغم إلحاده، وربما لا يعرف أن كانط  كان يعارض المثلية تماماً كسقراط وأفلاطون وأرسطو، وأنَّ جون لوك لم يتسامح مع الملحدين، وأنَّ المفكرين الأحرار ناهضوا شرب الكحول مثلاً. أي أن الكثيرين يريدون أن نبدأ من حيث انتهى الغرب، وهذا ما يمكن وصفه بـ"التحول الديمقراطي معكوساً".