الديكتاتورية بديل الديمقراطية الواقعي!

2021.11.17 | 04:37 دمشق

asya569_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تثير أزمة اللاجئين على حدود الاتحاد الأوروبي مع بيلاروسيا نقاشاً حاداً في الأوساط السياسية الأوروبية، وتتفاعل معها وسائل الإعلام الأوروبية بشكل كبير. هذا شيء طبيعي جداً، فموجات اللاجئين الكبيرة التي تدفّقت عبر الحدود عام 2015 غيّرت الكثير في السياسة الأوروبية وفي خريطة الأحزاب واتجاهات رأي المواطنين الأوروبيين، كما وضعت الاتحاد أمام تحديات مصيرية تكاد تعصف به وتقوده – بالطبع مع العديد من الأسباب الأخرى التي منها خروج بريطانيا والأزمة مع بولندا وأزمة اليونان المالية – إلى التفكك والانهيار.

تقف روسيا وراء الكثير من هذه المشكلات، فالاتحاد من جهة وحلف الناتو من جهة ثانية يشكلان تحدياً كبيراً للمصالح القومية الروسية، وسعيها لتفكيكهما أو على الأقل إضعافهما ليس بالأمر الجديد. في سبيل ذلك، استخدم الروس استراتيجية واضحة تقوم على مبدأ القضم التدريجي والضغط المستمر. قضم الدول المجاورة التي تعتبرها حديقة خلفية لها تاريخياً، سواءٌ من خلال الاحتلال المباشر كما فعلت مع القرم الذي كان جزءًا من أوكرانيا، أو من خلال دعم النزعات القومية والتيارات اليمينية عند بعضهم الآخر مثل بولندا والمجر. أمّا الضغط فتمارسه من خلال التحكم بتوريد الطاقة التقليدية وخاصّة الغاز، كما من خلال استغلال قضايا اللجوء وموجات اللاجئين المتدفقة من كل حدب وصوب.

تصريحات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف عن ضرورة الضغط على اللاجئين السوريين لإعادتهم إلى حظيرة الأسد، ليست مجرد وسيلة لدعم هذا النظام المتهالك، بل هي أيضاً ترسيخٌ لمبدأ البدائل الواقعية لقيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. إنها انتقام الروس من فوكوياما وتاريخه الذي انتهى عند انعدام وجود تحدٍّ للديمقراطية الليبرالية بحلّتها الأميركية من خارجها. وما تحليق القاذفات النووية الاستراتيجية الروسية في أجواء بيلاروسيا، وما استشهاد رئيسها لوكاشينكو بدعم أعظم دولة نووية له في موقفه تجاه الاتحاد الأوروبي بقضايا الحصار واللاجئين، إلا إشارة إلى هذا التشكيل الجديد من العلاقات الدولية التي تحاول روسيا تثبيته بصبرٍ وأناة.

إنّ استخدام جميع الوسائل لتحقيق الأهداف السياسية بما فيها تلك الأكثر قذارة، ليس حكراً بطبيعة الحال على الروس، فالأميركيون الذين أعماهم الغرور بعد انهيار المنظومة الاشتراكية أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ارتكبوا أيضاً مجازر مروّعة بحق شعب العراق عندما حطموا دولته بحجة نشر الديمقراطية والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. كذلك فعلوا الأفاعيل في أفغانستان بحجة حماية الحريات وحقوق الإنسان. والروس كالأميركيين، يسعون على الدوام لتأمين محيطهم القريب وما هو أبعد منه على الصعيد العالمي، لتحقيق أمنهم ومصالحهم الاستراتيجية. لذلك يعتبر الروس أنّ وجود دول مفككة في القارة العجوز، يمكنها التعامل معها ضمن سياسات التوريد الفردية للطاقة، وضمن سياسة التعاون الفردي في غيرها من القضايا، أفضل بألف مرّة من وجود اتحاد أوروبي أو سوق أوروبي مشترك، فضلاً عن تحالف جيوش هائل القوة مثل حلف شمال الأطلسي.

الأسد ولوكاشينكو بالنسبة لبوتين ليسا أكثر من بيادق يحارب بها لتجذير نظريته، وسكوت العالم الحر – كما يحلو لمنظريه تسميته – على هذا الأمر، سينعكس بكل تأكيد على الاستقرار العالمي.

من هنا ينظر الروس إلى دعم الديكتاتوريات في العالم، كنقلة من بين عديد النقلات التي تُوجبها لعبة الشطرنج التي يمارسونها بلذّة ومتعة عارمتين. من بيلاروسيا مروراً بسوريا ومصر وليبيا وصولاً إلى فنزويلا، يعبُر الدبّ الروسي ساحقاً عظام البشر مثبّتاً أركان الاستبداد لتمكين البديل المُفترض عن الديمقراطية. هكذا تكلّم بوتين، وهكذا تصرّف منذ تسلّمه السلطة من سلفه بوريس يلتسن. لذلك كان لا بدّ من دعم ديكتاتور بيلاروسيا في مواجهة الشعب أولاً وفي مواجهة أوروبا الغربية ثانياً. إنّ سياسة الابتزاز التي تتعامل بها روسيا مع أوروبا الغربية ليس هدفها فقط الضغط على حكومات هذه الدول أمام شعوبها، بل هدفها إظهار ضعف النموذج الديمقراطي في الحكم، حتى وإن كان بوتين لم يطرح حتى الآن أي بديل على الساحة كما كان الأمر في أثناء العهد السوفييتي، عندما كانت الاشتراكية الشعبية تنافس الديمقراطية والليبرالية.

لهذا كله، تعدّ معركة الحرية التي خاضتها ولا تزال تخوضها شعوب المنطقة العربية، أكبر تحدّ أمام النظرية البوتينية الجديدة، بوصفها التمثيل الواقعي لليمين العالمي المتطرّف. ولأنها كذلك، تعتبر بنفس الوقت الحليف الحقيقي للديمقراطية الغربية، وهذا ما التقطه بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف منذ البداية، فحاولا تشويه هذه الثورات ووصمها بالإرهاب والتطرّف، كي يضعا الحواجز بينها وبين حلفائها الطبيعيين. من هنا كانت تصريحات لافروف الأخيرة قبل أيامٍ في الفاتيكان، أنّ على الأوروبيين تحمّل نتائج تدخّلهم لزعزعة أنظمة المنطقة العربية المستقرة. 

إنّ وقوف أوروبا الغربية موقف المحتار المتردد، وعدم حماسة الولايات المتحدة في بدايات الربيع العربي للذهاب إلى الحد الواجب في دعم ثورات الشعوب، هو الخطأ التاريخي الأكبر منذ سكوتهم على صعود النازية والفاشية بدايات الربع الثاني من القرن الماضي. فالأسد ولوكاشينكو بالنسبة لبوتين ليسا أكثر من بيادق يحارب بها لتجذير نظريته، وسكوت العالم الحر – كما يحلو لمنظريه تسميته – على هذا الأمر، سينعكس بكل تأكيد على الاستقرار العالمي. ورغم قناعاتنا بأنّ تدخل هذه الدول لا يكون مجاناً، وأنّ الفاعل الرئيس في التغيير والانتقال هو الشعوب ذاتها، لكننا نرى بالمقابل أنّ هذه الشعوب وجدت في مواجهتها دولاً وأنظمة كاملة تمنعها من تحقيق حريتها وكرامتها. فلا يمكن القول إذن إنّ المعركة هي معركتها وحدَها، وأنّ النصر لا يكون إلا من الداخل، فالعلاقة باتت متعدّية، والأعداء ليسوا من الداخل فقط، بل هم سلسلة مترابطة متشابكة المصالح بوثاق لا تنفصم عراه.

إنّ المعركة ليست سهلة، بل هي في الجوهر بين قيم الحرية والديمقراطية، وبين الاستبداد والديكتاتورية، فهل ستتكمن الديكتاتورية من خلق البديل الواقعي عن الديمقراطية، أم ستنتصر إرادة الحرية عند الشعوب؟