الدولة بين الممكن والمستحيل.. عزمي بشارة ووائل حلاق نموذجاً

2022.02.02 | 14:58 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

  لقد حرّض الواقع العربي البالغ التعقيد والتشابك بأزماته المستفحلة الممتدة على مدى عقود بعضَ  المفكرين والمثقفين العرب على معالجات فكرية لتلك الأزمات التاريخية وتحليلها من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، إذ حاول بعضهم القيام بمراجعة ونقد للطروحات الفكرية والمفاهيم التي رصدت تلك الأزمات وسبب استفحالها، واقترح بعضهم حلولاً لتجاوزها، ونقد بعضهم العقل العربي وآلية إنتاج المعرفة، وتعددت الآراء واختلفت وأحياناً تناقضت، إن كان على مستوى الأدوات والمناهج المستخدمة أو على مستوى نتائج التحليل أو على مستوى طرح الحلول. وهنا سأبيّن نموذجاً أو عينة لهذا الاختلاف أو التناقض بين تلك الآراء والرؤى من خلال تسليط الضوء على رؤية عزمي بشارة ورؤية وائل حلاق، بما يخص مفهوم الدولة؛ والمسألة هنا ليست مسألة مقارنة بين رؤية عزمي بشارة ورؤية وائل حلاق لأنهما من حيث المبدأ رؤيتان مختلفتان تماما إن كان على صعيد أدوات تحليل الواقع أو على صعيد متطلبات تغييره أو حتى على صعيد الرؤية المستقبلية التي يهدف إليها الطرفان، ويُمكن القول إنهما رؤيتان فكريتان متوازيتان لا تلتقيان ومتعاكستان في الاتجاه، إذ إن بشارة يذهب مع حركة التاريخ وتطوّره ومحاولة التأثير فيه في الحاضر ليؤسس المستقبل؛  في حين يستلهم حلاق لحظة تاريخية مجتزأة من سياق التطور ويستأنس بمثاليتها ليؤسس استحالتها في المستقبل.

وإذا كان كتاب (الدولة المستحيلة) لحلاق ومناقشته هو المنطلق لتبيان هذا الاختلاف، أو التناقض بشكل أدق، فيتبين لنا منذ اللحظة الأولى الفرق والفجوة الهائلة بينهما حيث يقول حلاق " أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: مفهوم "الدولة الإسلامية " مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة أصلاً " [1]

والفرق هنا ليس لأن عزمي بشارة يرى أن الدولة الإسلامية ستتحقق في المستقبل بل لأن القول باستحالة الدولة الإسلامية، أو أي دولة، أو حتى القول باستحالة ظاهرة اجتماعية وتنبّؤ فشلها في المستقبل هو من حيث المبدأ خروج عن  الأسس المتّبعة في دراسة الظواهر الاجتماعية؛ لأن المعروف هو دراسة الظاهرة الموجودة أو التي هي في طور التكوين، على الأقل،  وتشريحها والحفر في أسباب نشوئها وتطورها إذا تطورت، والحفر في أسباب فشلها إذا فشلت، أمّا دراسة الظواهر الاجتماعية بشكل تنبؤي وإطلاق حكم على مستقبلها فلا تستوي والمنطق الداخلي للظاهرة نفسها، وحيث إن الظاهرة المقصودة هنا هي الدولة الإسلامية المستحيلة والذي يعني ضمناً أنها غير موجودة، لذلك فإن مفهومها الذي يُعرّفه حلاق ويتحدث عنه لم يتوصل إليه من خلال دراسة تلك الظاهرة وتحليلها بشكل عينيّ ومتحقق، بل بشكل متخيّل؛ لذلك سيكون المفهوم نفسه متخيّلاً، وأي استنتاج يستدعيه هذا المفهوم هو استنتاج متخيّل؛ وفي هذه النقطة يسعفنا بشارة فيقول:  " أدوات العلوم الاجتماعية لا تكاد تكفي لشرح نشوء أو تفسير ظواهر قائمة، أمّا مسائل من نوع غياب الظاهرة، …. فهذه خارج اهتمام العلوم الاجتماعية وقدرتها " [2]

كما يقرّ بشارة بتاريخيّة الدولة، كذلك يفعل حلاق، لكنّ حلاق يتجاوز تلك التاريخية ويتناقض معها في أكثر من موقع، ويُطبَّق مفهوم تاريخية الظاهرة عنده عندما يتطرق لمفهوم الدولة الحديثة فقط فيقول حلاق: " الدولة منتج تاريخي بقدر تاريخية أي مؤسسة أو مفهوم نعرفه… إن هذا الأصل التاريخي جزء أصيل من ماهيّة الدولة، وإننا لا نستطيع من دونه فهمها بصورة تامة أو حتى كافية، فتاريخ الدولة هو السيرورة التي تكشف من خلالها الدولة كمفهوم مجرد وكمجموعة من الممارسات "[3] ؛ و:" كل الأشياء في العالم تاريخية بمعنى مهم من المعاني "[4]. و" تاريخ الدولة هو الدولة، إذ إنه لا يوجد في الدولة ما يمكن أن يهرب من الزمنية، فهي منتج تاريخي محدد ذو ثقافة محددة".   [5] أمّا عندما يتطرق للدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي فإنه يتجاوز التاريخ ويقف عند حدود القرن العاشر أو الدولة الأموية ويجعل من تلك الظاهرة النموذج للدولة المنشودة لما بعد الدولة الحديثة بقوله: " إن استعادة المصادر الأخلاقية الإسلامية، تمثل مشروعاً حداثياً بقدر الحداثة نفسها. وهي كمشروع حديث، ما بعد – حداثية أيضاً حتى النخاع " [6].   وهذا التناقض لا نجده عند عزمي بشارة الذي يرى أن الدولة الحديثة هي منتج تاريخي أيضاً فيقول: " أساس فكرة الدولة الواعية لذاتها كفكرة يعود إلى مرحلة ما بعد نشوء الدولة الحديثة " [7] . ويضيف: "لم ينشأ هذا الكيان [الدولة] بقفزة من جوهر إلى آخر جديد، بل تطور تدريجيا من الكيانات الاجتماعية/ السياسية المنظمة ومن السلطة" [8] وفي هذا السياق يقول: " ما يهمنا هو أن من شروط نشوء الدولة الحديثة عناصر كانت قائمة قبل الحداثة، مثل وجود سلطة سياسية، أي حاكمين ومحكومين …. فالدولة الحديثة لم تنشأ من لا شيء "  [9]  لكن الفرق هو أن بشارة يرى أن الدولة ما بعد الحديثة ليست من الماضي ولا نستطيع تحديد شكلها وماهيتها في المستقبل فهي منتج تاريخي ينتج عن الصراع بين وحدات الدولة الحديثة المتمايزة حيث يقول "ليس النظام الديمقراطي الليبرالي أيديولوجيا غائية نهائية لتاريخ العالم، ويمكن بالطبع أن تنشأ بدائل عالمية منه غير الشيوعية. فليس هناك ما يمنع افتراض ذلك نظرياً. " [10]

وبالرغم من إيمان بشارة بالدولة الديمقراطية الليبرالية كأفضل أنواع الحكم في هذه المرحلة حيث يقول: " هل ثمة نظام أقدر من النظام الديمقراطي الليبرالي على الموازنة بين قيمتي الحرية والمساواة مكوّني العدالة التي يصبو إليها الإنسان المعاصر؟ الجواب في رأيي هو لا." [11] ومع ذلك لا يعتبرها نموذجاً ثابتاً ولا يتنبأ بحتمية مستقبلها ولا يفترض نموذجاً جاهزاً يمكن تطبيقه في المستقبل؛ لأنه محكوم بتاريخية الظاهرة والمفاهيم الدالّة عليها فيقول: " لا يمكن نظرياً استبعاد نشوء إيديولوجيات جديدة في المستقبل قادرة على طرح أنظمة حكم وأنماط حياة بديلة من الديمقراطية الليبرالية " [12]

وفي هذا الصدد وحول الفرق بين رؤية مفكر وآخر يقول بشارة في كتابه "في الثورة والقابلية للثورة ": " وهنا يكون الفارق بين متكلم وآخر ليس فارقاً في التحليل والتشخيص فحسب، بل هو فارق بالإيمان، بالغاية أيضا، فثمّة من يفقد الثقة، وآخرون يستنطقون التاريخ بالوعود." [13]

يمكن القول إن الفرق بين فكرة الدولة عند عزمي بشارة، وعند وائل حلاق هو أن الأول يبحث في الظاهرة العينية المتحققة على أرض الواقع والتي تتطور بفعل آلياتها الداخلية؛  أي أنه يتعامل مع ظاهرة أنتجها العقل والإرادة والحرية من خلال ذلك الجدل الذي يقيمه العقل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون فمثلاً كلما ضاقت الحرية ذرعاً بالمؤسسات أو البنى التي تعمل من خلالها وفيها، تسعى لأن تخلق مؤسسات وبنى أكثر استيعاباً للمفاهيم الجديدة للحرية وانعكاساتها الفردية والاجتماعية وهذا التقدم أو التطور نحو مزيد من الحرية ومزيد من تطور البنى اللازمة لاستيعابها كحريات هو الغاية أو المشروع القابل للتحقق مع صيرورة الزمن وعلى أرض الواقع وهو الذي يطوّر مفهوم الحرية ويطور مفهوم الدولة بنفس الوقت، وفي هذا السياق يقول بشارة " اكتسبت الدولة قدرات الدولة البوليسية ودولة الرقابة في الحداثة، ونشأت حقوق قانونية ومؤسسات ترعى هذه الحقوق لحماية حريات الإنسان بدءاً بسيادته على نفسه ونهاية بحماية مجال خصوصيته في وجه السلطة وامتيازاتها وسطوتها، كانت هذه مسيرة طويلة أنهت كل معركة من معاركها إلى صيغة جديدة من الموازنة بين حقوق المواطن وسلطات الدولة وأجهزتها" [14]

أمّا حلاق فإنه يبحث في المثل أو الأفكار التي يعتقد أنها الشكل الأمثل لبناء الدولة ويصوغ الدولة ويهندسها في عقله معتمداً على ما يجب أن يكون في التضاد التام مع ما هو كائن، متجاوزاً حركة التاريخ ومفاعيلها المتداخلة مع الاجتماعي والسياسي حيث يقول "يقوم الحكم الإسلامي على أسس أخلاقية وقانونية وسياسية واجتماعية وميتافيزيقية مختلفة جذرياً عن الأسس التي تدعم الدولة الحديثة " [15]  ويصل حلاق في رؤيته إلى تصور أن هذا المثال بميزاته الأخلاقية المتعالية لا يمكن تحقيقه ضمن المعطيات الواقعية الحالية أو المستقبلية، والمفارقة أن هذا الاستنتاج  دقيق، لكن ليس بمقدمات حلاق بل لأن تطبيق المثل أو المتخيل على أرض الواقع مستحيلة، وإذا أريد لها أن تطبّق وتتحقق على أرض الواقع فلا يكون ذلك إلا بأدوات خارج سياق العقل وصيرورة التاريخ وأقصى تصور لتحقيقها هي أدوات العنف أو العنف المفرط لأنه كما يقول بشارة " الارتداد عن الحداثة إلى مؤسسات المجتمع التقليدية خارج الدولة لا تنتج أنظمة حكم كما رأينا، بل مراحل انتقالية نحو تفسخ الدولة والتحول إلى جماعات عضوية محزبة " [16].

 

وعند المقارنة بين نموذجي الدولة الحديثة والحكم الإسلامي كما يحبّ أن يسميَّه حلاق تتم المقارنة عنده بين أطر وبنى ومؤسسات معينة ومحددة تاريخياً هي الدولة الحديثة وبين بنى ومؤسسات وأطر هي بمثابة مُثل ليس لها وجود على أرض الواقع، ولا حتى تاريخية تطبيقها، تسمح بأن نطلق عليها مُثل، بل هو نموذج أو بنية جلبها حلاق من الماضي كمنظومة مغلقة أطلق عليه الحكم الإسلامي وجعلها في مواجهة وجودية مع الحداثة، وجعلها مرجعية معيارية تقاس وفقاً لها الدولة الحديثة، وأضفى عليها مفردات ومفاهيم حديثة مثل مصطلح (البنى الدستورية) وهذه الكلمات حديثة ودلالاتها أيضاً حديثة تطورت عبر تاريخ طويل من تطور الدولة الحديثة فكيف يمكن تطبيقها على حكم إسلامي يعتبر نموذجه الأقرب إلى عهد الخلافة في أحسن الأحوال حيث يقول حلاق: " سنناقش مفاهيم الإرادة السيادية وحكم القانون في ما يخص مبدأ الفصل بين السلطات وتطبيقه. وتسعى هذه المناقشة لخدمة هدفين: الأول، هو أنها ستمكننا من استعراض الأطر والبنى الدستورية لكل من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي" [17]

بالتأكيد يمكن استعراض الأطر والبنى الدستورية للدولة الحديثة لأنها موجودة بالفعل ومتحققة عينياً، والسؤال هو: كيف يمكن أن نستعرض الأطر والبنى الدستورية لحكم إسلامي غير موجود ومحكوم عليه بالاستحالة منذ الصفحة الأولى؟!

ولا يحكم حلاق على دولته الذهنية المتخيلة الخارجة عن حدود التاريخ والجغرافيا بأنها مستحيلة، بل يسحب ذلك أيضاً على التجربة الحالية للمسلمين في ظل الدولة الحديثة ويعتبرها فشلت بدرجة كبيرة حيث يقول: " ومن الواضح أن لمسلمي العصر الحديث الحق والفاعلية القادرة كي يزعموا لأنفسهم ذاتية علمانية، ذاتية تعترف بالإسلام كانتماء ديني اسمي من دون أن يستتبع ذلك نظام معيّن من الممارسات والفروض…. وفي الواقع كان مشروع العلمنة هذا جُرّب وجرى تبنّيه في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ولكن ثمة أدلة طاغية على فشل هذا المشروع بدرجة كبيرة " [18] ص ٤٧

نعم فشل كثير من المسلمين في الوصول إلى الدولة الليبرالية الديمقراطية الحديثة لأن عملية التحول الديمقراطي في البلدان المعنيّة لم تنجز لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وليس لأن الأخلاقي لم يكن النطاق المركزي المعلن فيها ولا لأن الشريعة لم تكن النطاق المسيطر على البعد التنفيذي والقضائي؛ وهو ما يبيّنه بشارة " المشكلة ليست العلمانية أو التديّن لدى أصحاب هذه التوجهات. ومصدر الاستبداد الحداثي هو ليس العلمانية، بل التحديث من دون حداثة، وضرب البنى العضوية من دون مؤسسات ديمقراطية، وانتزاع الفرد من بيئته التقليدية من دون تحويله إلى مواطن." [19]

ويبيّن حلاق مشكلات الدولة الحديثة ويمارس انتقائية شديدة في إبراز صفاتها الأسوأ فيقول: " فكما أن الدولة الحديثة ليست مستقرة على نحو مريح في العالم الإسلامي (وفي جزء كبير من العالم اللأفرو- آسيوي ) كذلك تعيش الحداثة برمّتها بصورة إشكالية في العالم ككل، بما في ذلك أوروبا – أميركا التي أنتجتها في الأصل… هذه المشكلات التي تتراوح من الفراغ الروحاني الخاص بالذات المفكّكة والغرائزية والنرجسية إلى تدمير المجتمع العضوي والأسرة والبيئة الطبيعية، كل هذه أشياء لا يمكن فصلها عن مشروع الدولة الحديثة بعيد المدى. " [20]

ويبيّن بشارة في هذه النقطة بالتحديد، تلك المواربة المتضمنة بالحديث عن زيف الحداثة حيث يقول: " يكثر مثقفون إسلاميون من إبراز مساوئ الديمقراطية في الغرب ومثالبها وزيف الحرية التي تدَّعي أنها تحرسها. فهل التركيز على مساوئ الديمقراطيات الغربية من باحث يعادي الاستبداد العلماني ويؤيد الاستبداد إذا كان يرتدي رداء الدين، هو موقف جذري من الحرية؟ إنه يدّعي كشف "زيف الحرية " لأنه يعارض الحريات الشخصية والمدنية والسياسية اصلاً، لا لأنه يدافع عن "حرية حقيقية " [21]

أما من ناحية المنهج والأدوات التي اتبعت في تحليل مفهوم الدولة فيقول حلاق: " يمثل مفهوم "النطاق المركزي" الخاص بكارل شميث نقطة انطلاق نحو تعريف النموذج، فعندما يصبح نطاق ما مركزياً، فإن مشكلات النطاقات الأخرى تُحل في إطار النطاق المركزي، وتعد هذه المشكلات ثانوية، إذ يأتي حلها بصورة تلقائية ما إن تُحل مشكلات النطاق المركزي" [22] ،  وهي النظرية والأداة المعرفية التي اعتمدها حلاق في تحليل الدولة الحديثة بنطاقها الاقتصادي النفعي كنطاق مركزي وهو ما يرفضه، ومقابلتها مع الحكم الإسلامي بنطاقه الأخلاقي كنطاق مركزي يسعى لتطبيقه، وهذا ما يختلف معه بشارة ذي النزعة النقدية التاريخية للمفاهيم والنظريات التي احتضنتها والذي يقول بعد أن  يتحدث عن " نظريات في الدولة " ويعدد المقاربات المتعددة لها:

" كما أصبحت أي محاولة نظرية جديدة في فهم الدولة تحتاج إلى تضافر هذه المقاربات وغيرها. فليست الحصرية النظرية مفيدة في فهم ظواهر اجتماعية مركبة ومتغيرة ومتطورة باستمرار. وقد يقود الإصرار على مقاربة نظرية واحدة لفهم منشأ الدولة وبنيتها ووظيفتها وطابعها وعلاقاتها بالاقتصاد والمجتمع والثقافة، وتأثيرها بهذه العوامل إلى تحويل النظرية إلى أيديولوجيا. إنّ ادّعاء أي مقاربة نظرية أنها قادرة على الإلمام بجوانب الظاهرة الاجتماعية كافة، بحيث توازيها في شموليتها، إنمّا تركب مركباً خطيراً " [23]

   ولارتباط مفهوم الأمة بالدولة بصيغ مختلفة تبعاً لتاريخية اللحظة المدروسة كان لا بد لحلاق أن يعرّج على هذا المفهوم ومحاولة صياغته برؤيا تناسب دولته المستحيلة حيث يقول: " ففي الإسلام تحلّ الجماعة (الأمة) محلّ شعب الدولة القومية الحديثة، والأمة شيء مجرد ومادي في آن معاً، لكنها في كلتا الحالتين محكومة بالقواعد الأخلاقية ذاتها. وهي أيضاً، في شكلها المجرد، تشكيل سياسي محدود بمفاهيم أخلاقية – قانونية."

ويقول أيضاً: "تتكون الأمة في تعريفها النموذجي، من مجموع المؤمنين المتساوين في القيمة، كمؤمنين، فلا يتمايزون أمام الله. وإذا فضّل الله بعضهم على بعض، فإن ذلك لا يكون على أساس الانتماء إلى طبقة أكثر قدرة أو إلى لون بشرة معيّن، بل على أساس درجة إيمانه أو إيمانها." [24]

وهنا نرى الفرق في وجهة نظر بشارة المعاكسة تماماً إذ يقول:" إن كل محاولة لإعادة عملية التاريخ إلى الوراء وطمس الفوارق والتمفصلات التي أفرزتها العملية التاريخية، كل محاولة لاختزال الأمة إلى مجموعة قومية إثنية و/ أو ثقافية، ….. كل محاولة كهذه تقود إلى تأسيس تيار قومي ذي أيديولوجيا معينة، ولكنها لا تبني أمة " [25] وهنا يختصر بشارة مفهومه للأمة بهذه الجملة القاطعة " الأمة الحديثة هي أمة لدولة لا مجموعة إثنية" [26].

 

 

ويمكن القول في النهاية إن هذه الدراسة أو هذا المقال لم يكن بإمكانه الإحاطة بكل مفاهيم الكليات ولا تفاصيل الجزئيات، لكنها مساهمة في تبيان الطروحات التي تناولها وائل حلاق وكان لعزمي بشارة رؤية مختلفة فيها.

محمد إبراهيم

 


[1] (حلاق، 'الدولة المستحيلة' الإسلام و السياسة و مأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 19)

[2] (بشارة، في المسألة العربية مقدمة لبيان ديموقراطي عربي، 2007، صفحة 166)

[3] (حلاق، 'الدولة المستحيلة' الاسلام و السياسة و مأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 60)

[4] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 63)

[5] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 66)

[6] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 49)

[7] (بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي الجزء الثاني المجلد الأول، 2014، صفحة 204)

[8] (بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي الجزء الثاني المجلد الأول، 2014، صفحة 204)

[9] (بشارة، الانتقال الديمقراطي واشكالياته – دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، 2020، صفحة 327)

[10] (بشارة، في الإجابة عن سؤال : ما الشعبوية ؟، 2019، صفحة 168)

[11] (بشارة، في الإجابة عن سؤال : ما الشعبوية ؟، 2019، صفحة 169)

[12] (بشارة، في الإجابة عن سؤال : ما الشعبوية ؟، 2019، صفحة 170)

[13] (بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، 2012، صفحة 195)

[14] (بشارة، مقالة في الحرية ، 2016، صفحة 22)

[15] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 105)

[16] (بشارة، في المسألة العربية مقدمة لبيان ديموقراطي عربي، 2007، صفحة 48)

[17] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 25)

[18] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 48)

[19] (بشارة، في المسألة العربية مقدمة لبيان ديموقراطي عربي، 2007، صفحة 47)

[20] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 258)

[21] (بشارة، مقالة في الحرية ، 2016، صفحة 109)

[22] (حلاق، 'الدولة المستحيلة' الإسلام و السياسة و مأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 39)

[23] (بشارة، محاضرة حول الدولة والأمة ونظام الحكم وذلك في مؤتمر العلوم الاجتماعية الإنسانية الدورة الثامنة، 2021)

[24] (حلاق، الدولة المستحيلة' الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، 2014، صفحة 106)

[25] (بشارة، المجتمع المدني – دراسة نقدية، 2012، صفحة 271)

[26] (بشارة، دوامة الدين والدولة في إسرائيل, مجلة الدراسات الفلسطينية العدد ٣ صيف ١٩٩٠ ، صفحة 1)

كلمات مفتاحية