الخطاب الطائفي بتدليس «علمي»

2022.06.27 | 07:03 دمشق

06_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

في 12 أيار الماضي ألقى الدكتور كمال عبدو، المدرس في كلية التاريخ بجامعة إدلب والمحاضر في كلية العلوم السياسية بجامعة الشمال، في ندوة نظمتها الأخيرة، كلمة عن الحكم الطائفي في سوريا، كنت انتقدتها في مقالة سابقة. غير أن الموضوع ظل على الهامش حتى نشرت وسيلة إعلامية شهيرة مقاطع مختارة من هذه الكلمة تحت عنوان مثير هو «هذه الطائفة لم تنتج سوى القتلة المأجورين»، مما أثار تفاعلاً كبيراً بين مؤيد لما جاء فيها ورافض لها.

بدوره عمد الدكتور عبدو إلى «توثيق» ما ذكره في كلمته من اتهامات، محدداً المراجع التي استند إليها عند ذكر هذه الجملة أو تلك، في منشور تداوله بعض مؤيديه، بالتزامن مع صدور العدد الثاني من «مجلة ماري للأبحاث والدراسات» عن مركز يحمل الاسم نفسه في اعزاز بشمال سوريا. وفيه «بحث» للدكتور عبدو بعنوان «الصراع الطائفي على السلطة في سورية بين عامي 1963-1967م». يتقاطع، إلى حد كبير، مع ما ورد في خطابه الشفوي.

إذا كان إغفال أثر العامل الطائفي مخلاً بالبحث العلمي ومعمّياً على واقع السياسة الداخلية، وهو ما حرصت السلطة الأسدية على فعله، فإن إفراده بالتركيز خلل آخر لا يقل خطورة بل يزيد

ما يلفت النظر، في المنشور الداعم للكلمة وفي «البحث» المطبوع، أن أستاذ التاريخ يعتقد أن مجرد إحالة جملة إلى مرجع هو أمر يعفيه من مسؤولية محاكمتها واعتمادها واختيارها. لا سيما أنه لم يقارن بين ما ورد في المراجع، كما وعد في مقدمة بحثه، بل انتقى مما ذكره المؤلفون ما يوافق هواه بقصدية واضحة، متجاوزاً ما يخالفه، مختزلاً بشكل مخل، متجزئاً جملة من هنا أو هناك، رافعاً التشبيه المجازي إلى رتبة حقيقة. ليؤسس من هذه الاختيارات سردية لا ترى في التاريخ السوري المعاصر سوى الصراع الطائفي.

وإذا كان إغفال أثر العامل الطائفي مخلاً بالبحث العلمي ومعمّياً على واقع السياسة الداخلية، وهو ما حرصت السلطة الأسدية على فعله، فإن إفراده بالتركيز خلل آخر لا يقل خطورة بل يزيد. ومن المستغرب أن تقوم مجلة «محكّمة» بنشر نص يفتقر إلى المنهجية العلمية إلى هذه الدرجة.

يوهم الأستاذ طلابه، وربما يعتقد ذلك هو نفسه، أن البحث العلمي هو مجرد نقل. ويبدو أنه يظن أن مهمة الباحث هي دعم الأفكار الحربية الشائعة في محيطه بمستند يُختم بقائمة مراجع أياً تكن ومهما كانت طريقة استخدامها. وكأن وظيفة الأكاديمي هي تغطية المقاتل بنوع من السلاح «الثقيل» الذي يواجه به الأعداء.

من جهة أخرى يرى الدكتور عبدو أن كل ما فعله هو «أني قلت ما لم يجرؤ أحد على قوله علانية منذ زمن طويل». والحق أن الخطاب الطائفي الذي ألقاه شديد الذيوع بشكل فاقع، تتبناه حركات وتخطب به منابر وينتشر بين الناس، رداً على ممارسات طائفية واجه النظام بها الثورة وبلغت حد التوحش، غير أن ما يطرحه الدكتور لا يقل دعوة إلى التوحش. خاصة أنه يوسّع دائرة الاتهام، في تعقيبه على أصداء كلمته، لتشمل كل الطوائف في سوريا، ذاكراً الدروز ومشيراً إلى الإسماعيلية. ليزعم، بعد ذلك، أن خطابه ليس طائفياً، ولا رأياً شخصياً، ولا من منطلق ديني، بل هو ما دوّنَته «المصادر الأجنبية والعربية». وكأن أي خصم لا يستطيع العثور، مثلاً، على مراجع تتهم الإسلام بالوحشية والعرب بالغدر. فهل يُقبل بحثه إذا نقل منها مجموعة متراصة من هذه الأقاويل، وذيّل نصه بأسماء الكتّاب وأرقام الصفحات؟

من المؤسف ألا يرى الدكتور عبدو في منتقديه سوى نوعين؛ إما أشخاص «ما زالوا يحملون العبودية في عقولهم تجاه الآخرين»، أو من «حثالات التاريخ ومرتزقة الجغرافية» الذين تفجر لديهم «حقد دفين قادر على حرقنا جميعاً». وكأن كلامه ليس طريقاً آخر إلى المحرقة. لكن المؤسف أكثر أن طلاباً تقطعت بهم سبل التحصيل الجامعي يتعرضون لهذا النوع من الخطاب الموتور الذي يلتحف بتدليس علمي.

الرسالة المطلوبة من الأكاديميين أساساً هي إتقان اختصاصهم ونقل معارف علمية وطرائق بحث سليمة

ولعله قد آن الأوان لتدارس المحتوى الذي تقدمه جامعات المناطق المحررة والمستوى النوعي لهيئاتها التدريسية. وإذا كانت هذه التجارب قابضة على الجمر بالفعل، وتستحق كل التقدير والدعم من جهة المبدأ والوظيفة، فإن هذا يجب أن لا يعني تساهلاً مفرطاً في الجودة، رغم نقص الكوادر وندرتها في بعض الاختصاصات. فالمحافظة على حدود معقولة من معايير التعليم العالي واجب أخلاقي تجاه العلم والطلاب أولاً، فضلاً عن أنه، ثانياً، مدخل ضروري للمحاولات الشاقة لنيل الاعتراف وتكليل هذه الجهود السيزيفية بشهادة معتبرة.

وإذا كانت بعض المشكلات قد أثيرت في حق أساتذة جامعيين أبدوا مواقف شبه سلبية من الثورة فإنه يجب التنبه، بالمقابل، إلى أن الرسالة المطلوبة من الأكاديميين أساساً هي إتقان اختصاصهم ونقل معارف علمية وطرائق بحث سليمة. أما ما بات ملحوظاً من مزاحمة بعض هؤلاء لخطيب الجمعة في وعظه الديني، أو للمحرضين على الثبات قبيل المعارك؛ فهو ليس أمراً نافلاً فحسب، بل هو خروج عن المهمة العلمية الأصلية، وفي أحيان كثيرة تغطية على نقصها.

كلمات مفتاحية