الخروج على كذبة المقاومة

2020.09.14 | 00:04 دمشق

cropped_8849489_1551242832.jpg
+A
حجم الخط
-A

هناك مثل بالإنكليزيّة يقولYou cannot eat the pie and keep it  لا يمكنك أن تأكل الفطيرة وتحتفظ بها. مناسبة المثل، ما قاله مَن هو أصغر من أن يحدد موقف منظومة الاستبداد في دمشق، لو لم يكن قد التقط توجهاً ما في دهاليز المنظومة وجحورها يفيد بالانتقال من امتطاء كذبة المقاومة إلى سرير التطبيع. قال: "إذا كان هناك توافق أميركي-روسي؛ تنتهي فكرة المقاومة؛ وينتفي مبرر وجودها؛ ما يفتح الطريق لسوريا للخروج منها؛ وهذا مشروط بقيام دولة فلسطينية، تكون مرتبطة بإسرائيل؛ وهذا يعني أيضا عودة الجولان حسب الاتفاقات الدولية"؛ هذا الكلام أتى على لسان د. /مهدي دخل الله/ أحد منظري وقياديي حزب البعث العربي الاشتراكي على شاشة التلفزيون السوري في دمشق.

هذا الكلام في "دمشق الأسد" التي قدمها لنا نظام الاستبداد وشريكته إيران ك"عصب لمحور المقاومة" الممتدة من إيران إلى لبنان مروراً بسوريا. إنها "المقاومة" التي "هزمت المؤامرة الكونية" فتسببت بتدمير نصف سوريا وتشريد نصف سكانها؛ والتي باسمها كل مَن قال "لا" للاستبداد، لا للسرقة، لا للتجهيل، لا لعبادة الفرد؛ عدو لها، وخائن وإرهابي وعميل صهيوني وأميركي وتركي.

كل شيء تم باسم هذه "المقاومة"، كل شيء كان مؤجلاً لننتهي من "مقاومة إسرائيل محتلة الأرض مغتصِبة الحقوق"؛ كل شيء كان مؤجلاً: الخبز، والتعليم، والصحة، والحرية، والوحدة، والاشتراكية، والبناء، والاحترام، والإنسانية.... باسمها اعتُبِر السوريون الذين طالبوا بجرعة حرية غير وطنيين وإرهابيين وخونة؛ باسمها لم يعد يشعر السوري بإنسانيته؛ باسمها كان العداء مع دول عربية مدت يدها إلى إسرائيل؛ باسمها تم بيع البلد اقتصادياً وأيديولوجيا لإيران؛ باسمها أدخل نصرالله المقاوم الأول، والخامينائي "إله" المقاومة ميليشياتهم إلى سوريا لقتل السوريين وتدمير بلدهم.

هل كان إذن كل ذلك الخطاب في المقاومة والممانعة مزايدة وكذبًا، ليأتي الآن مَن يتحدث عن الخروج منها؟ هل كانت المقاومة والممانعة فقط بوجه شعب سوريا الصادق العظيم؟ متى كانت سوريا بانتظار قيام دولة فلسطينية حتى تطبّع مع إسرائيل، وخاصة أن سوريا لم تقبل تاريخياً بأوسلو؛ فما بالك- كما يتفضل مهدي دخل الله- ب "دولة فلسطينية مرتبطة بإسرائيل". وهل عودة الجولان مشروطة بخروج سوريا من حلف المقاومة؟ والأهم، متى توقفت طائرات إسرائيل عن اللعب في أجواء المقاومة لتخشى استمرارها أو بقاء أو خروج النظام منها؟!  كيف يكون الطريق سالكًا للخروج من المقاومة، وإيران "سيدة المقاومة" هي الشريان الذي يعيش عليه هذا النظام؟ وهل تستطيع إيران القطع مع هذه الكذبة الكبيرة في المقاومة، والتي اعتادت عليها لتتمدد في محيطها وتعبث به وتستبد بشعبها تحت يافطة مقاومة الكيان الصهيوني؟!

إذا كانت الغيرة من الإمارات أو البحرين، فليس لهما حدودٌ مع الكيان الصهيوني المحتل، ولا هو يحتل أرضهما؛ ولا كانوا يتبجحون بتحرير القدس والمقاومة. إذا كانت الغيرة من مصر والأردن، ألم. يكن بالإمكان فعل ذلك منذ كامب ديفد، أو منذ مفاوضات السلام مع الإسرائيلي في التسعينيات؟!

كيف ستعيد إسرائيل الجولان، وقد تمت مقايضته من قبل الأسد الأب مقابل استلامه السلطة وبقائه فيها بمهمة مقاومة وقتل المقاومة الحقيقية للكيان الصهيوني؟ هل كان "بل كلنتون" مغفلًا في جنيف، عندما لم يفهم أن حافظ الأسد لا يستطيع أن يأخذ الجولان في الحقيقة؛ لأنه تنازل عنه مسبقاً؛ حيث كان هو وإيهود باراك بداية عام 2000 يعرفان السر الغائب عن "كلنتون"، وبعد أن وصلت المفاوضات إلى حديث عن بضعة أمتار؟!

الكل يعلم أنه بالنسبة لأميركا وإسرائيل، عندما استنفد السادات الغرض الذي وجد من أجله، تم التخلص منه؛ وعندما هبت رياح التغيير في مصر العروبة كانت إزاحة مبارك، لأنه لم يعد مناسباً. وعندما هبت رياح التغيير في سوريا، كان الهدف الإسرائيلي مختلفاً. لقد توافق ما تريده إسرائيل مع شعار النظام "أحكمها أو أدمرها". لقد كانت إسرائيل حريصة على هذا النظام الذي خدم حدودها الشمالية عبر الجولان والجنوب اللبناني لعقود؛ فلا تقبل أن ينتهي إلا بعد أن ينفذ شعاره، ويحيل سوريا إلى حالة كسيحة لا تقوم لها قائمة لفترة زمنية تساوي الفترة التي حمى لها حدودها. ها هو نظام الأسد ينجز المهمة؛ ولكنه يعود إلى مَن خدمهم لينال المكافأة؛ ولكن هيهات - كما يقول نصر الله. لم يكن هو الخطر على الكيان، بل على  هذا الشعب السوري العظيم الذي جرحه جرحاً بالغاً. صحيح أن إسرائيل على درجة عالية من الخطورة والإجرام، ولكنها ليست على هذه الدرجة من السذاجة أو الغباء لتقبل تطبيعاً مع نظام يحمل على أكتافه كل هذه الجرائم، وكل هذا الإفلاس والخيبة. من جانب آخر، أين سيذهب هذا النظام من وجه إيران، التي إذا فَرَطَ عقد ما تعيش عليه في (المقاومة والممانعة) تنتهي سلطة ملاليها؟

هل ما نشهده إذن لعبة روسية في موسم التطبيع وصفقة القرن لتوقي العقوبات من جانب، ولتنفيذ المشيئة الأمرو-إسرائيلية بقصقصة أجنحة إيران من جانب آخر؟ وهل إيران ذاتها داخلة في اللعبة؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف ستبيع إيران كذبة العمر في المقاومة والممانعة التي عاشت عليها؟ وهل ستصطدم الأماني الروسية، بجلب شفاعة إسرائيلية لإنقاذ هذه المنظومة، مع المشروع الإيراني المناقض- على الأقل ظاهرياً- مع المشروع الإسرائيلي؟ لا بد ها هنا من التذكير بأن الطغيان الإيراني على سوريا قد سلب حكامها من كل مقدراتهم على الفعل؛ وفي حال خطر ببال رئيس منظومة الاستبداد أن يتذاكى ويتمرد على الأكسجين الإيراني، فإنه يعرف المصير الذي ينتظره؛ ولعل مصير "علي عبد الله صالح" عبرة لمن يعتبر.

ليعلم الأستاذ دخل الله أن الارتماء بحضن إسرائيل مصيبة، حتى ولو كان سرياً؛ فما بالك عندما يصبح علنياً، وخاصة عندما يكون مبنياً على الغدر برفيق الدرب إيران، التي تعيش على كذبة المقاومة. أخيراً، حتى المجرم (وأتحدث عن إسرائيل) ربما لا يقبلها على نفسه أن يكون ساذجاً أو غبياً لدرجة قبول الساقطين إلى جانبه علناً.

أخيراً، حتى من يتغذى على التطرف بإيران، ونظراؤهم من اليمين المتطرف في تل أبيب -الطرف الآخر من الأرجوحة- لا بد يعرفون من أنه لا يمكن أكل الفطيرة والاحتفاظ بها. لتسمح لنا تلك الأبواق المتذاكية بأنه يصعُب ركب المقاومة، لركب البلد؛ ثم ركب التطبيع للاستمرار. ارحلوا مع مقاومتكم؛ انتهت اللعبة؛ Game is over.