الحق في الاعتداء على الحقوق!

2022.05.18 | 06:51 دمشق

1-422.jpg
+A
حجم الخط
-A

مغالطة منطقية تثبت حدّ الحريّة ثم تنفيه، فكيف لحقّ أن يلغي حقّاً مساوياً له في المركز القانوني، وكيف لقوّة أن تُلغي قوّة أخرى مساوية لها في المحصّلة! لا يمكن تخيّل ذلك إلا افتراضاً، كأن ندخل في سياقات جدل فلسفي نانومتري أو كمومي، كما يجادل علماء الفيزياء الدقيقة وميكانيكا الكم عندما يناقشون تجربة قطّة العالم شرودنغر الحيّة الميّتة في نفس الوقت، فهنا حيث نخرج من عباءة قوانين الفكر والمنطق والاجتماع لندخل تحت عباء قوانين الفيزياء يمكن تصوّر هذا التناقض الظاهري الممكن الحدوث مخبرياً أو واقعياً. وقد صادف أن حصل هذا كثيراً في العديد من الدول الديمقراطية، حيث رأينا رسوماتٍ تتناول شخصيات دينية رفيعة القيمة عند بعض البشر، كما حصل في رسوم صحيفة شارلي إيبدو بحق الرسول محمد (ص)، أو حتى عمليات حرق وتمزيق لكتب سماوية كما فعل الدانماركي راسموس بالودان رئيس حزب الخط المتشدد قبل أسابيع بالقرآن الكريم في مدينة لين شوبينغ وغيرها العديد من المدن السويدية.

حقي في التعبير عن الرأي مساوٍ من حيث المبدأ لحق غيري في التعبير عن رأيه، وحقي في اعتقاد بطلان عقيدة ما مساوٍ أيضاً لحق شخصٍ آخر مؤمن بهذه العقيدة، وكما يسمح أو يجب أن يسمح لي القانون بالتعبير عن رأيي أو إظهار قناعاتي وممارسة عقائدي، يجب أن يسمح القانون أو يفترض به أن يسمح للآخرين بالتعبير عن عقائدهم، حتى ولو كانت مخالفة لعقيدتي أو على النقيض منها. لكن أين تكمن حوافّ هذه الحقوق، وأين ينتهي حق ويبدأ آخر، وهل لهذا من قواعد وقوانين ضابطة؟ بالتأكيد هناك حدود أخلاقية وأخرى قانونية بين هذا وذاك، فلا يجوز أن تصل ممارسة الحق إلى حدود التعسّف، ولا ينبغي أن يُسمح بأن يجورَ صاحبُ حقّ معترف به ومحميٍ على صاحب حق آخر.

السلامة الجسدية مثلاً من الحقوق الهامة، لكنه ليس أهمّ من حق الحياة، مع ذلك، فإنه لا يمكن تقييد هذا الحق، فلم نعد نجد أيّ قانون في العالم يسمح بالتعذيب أو بالإيذاء الجسدي للبشر تحت أيّة ذريعة

لو نظرنا إلى الحقوق الإنسانية العامّة لوجدنا أهمها حق الحياة، ومع ذلك، يمكن تقييد هذا الحق من خلال القوانين، فما تزال عقوبة الإعدام مثلاً معتمدة في كثيرٍ من القوانين الجزائية حول العالم. الحق في السلامة الجسدية مثلاً من الحقوق الهامة، لكنه ليس أهمّ من حق الحياة، مع ذلك، فإنه لا يمكن تقييد هذا الحق، فلم نعد نجد أيّ قانون في العالم يسمح بالتعذيب أو بالإيذاء الجسدي للبشر تحت أيّة ذريعة كانت. وهكذا نجد أنّ المفاضلة بين الحقوق واردة، لكنّ تقييدها يخضع لاعتبارات أخرى غير اعتبارات الأهمية كما سبق أن أوضحنا أعلاه.

من هذا المنطق يجب أن ننظر إلى الحقوق المختلفة بين الجماعات في الاعتقاد وفي ممارسة شعائرها الدينية وعدم المسّ برموزها، ولا تكون المفاضلة هنا مقبولة بين الحقوق استناداً إلى أعداد أصحابها أو جنسياتهم أو قومياتهم أو معتقداتهم، فلا يجوز أن نقول مثلاً بأن احترام دينٍ ما يرتبط بعدد معتنقيه أو بقوميتهم أو بغيرها من المعايير المماثلة، فهذا يتناقض مع طبيعة هذه الحقوق أساساً من حيث كونها فردية خاصة قبل أن تكون جماعية. لكن هل يدخل ازدراء الأديان أو الكتب السماوية أو الأنبياء ضمن طائفة الحقوق التي يجب صيانتها واحترامها وحماية أصحابها وتمكينهم من ممارستها؟ أفلا نقع هنا في محظور التناقض بين حق امرئ ما أو جماعة معينة باعتناق دين والإيمان بكتاب واتّباع تعاليم وهديِ رسولٍ ما، وبين حق امرئ آخر أو جماعة معيّنة بازدراء هذا الدين أو الكتاب أو الرسول؟

يعتقد بعضهم أنّ الإيمان الحقيقي يجعل أصحابه من الأفراد والجماعات أكثر وعياً، وبالتالي انضباطاً وقدرة على التعامل مع التجاوزات التي يقوم بها بعض المتطرفين ضد معتقداتهم، في حين يرى آخرون أنه من غير المنطقي الطلب من أفرادٍ أو جماعاتٍ كبتَ مشاعرها والتجاوز عن الإساءة لمعتقداتها، في حين تتمّ حماية المتجاوز وتمكينه من ممارسة ازدرائه علناً، كما حصل مع راسموس بالودان الذي تجول في أكثر من مدينة وقام بحرق المصحف في مناطق عدة من مدنٍ مختلفة تقطنها جاليات مسلمة وتحت حماية الشرطة السويدية!

الناس مختلفون في مستوياتهم المعرفية بكل تأكيد، وبالتالي فإنّ استجاباتهم وردود أفعالهم وارتكاساتهم للأحداث والتحديات مختلفة، لكنّ القوانين لا تنظر لهذا الأمر عندما تقرر حماية حق ما، أي أنها تفرض جزاءات على الأفعال المخالفة لنصوصها بغضّ النظر عن المستوى العلمي أو الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي لمرتكب المخالفة، فلا يمكن أن يعاقب بروفيسور في الجامعة بغرامة أقل من طالب الجامعة أو عامل السكك الحديدية مثلاً إذا ما تجاوز الثلاثة إشارة المرور الحمراء، فالقوانين مجرّدة وعامّة. ومن هنا كيف لنا أن نطلب من أتباع دينٍ ما مختلفين بثقافاتهم وخلفياتهم الالتزام بسلوك واحدٍ أو ردّ فعلٍ واحدٍ تجاه الإساءة لدينهم من شخص امتهن الأمر بحيث بات استفزازاً متكرراً بهدف صناعة محتوىً سياسي وإيديولوجي يميني متطرّف باعتراف أشقاء بالدودان ذاته، أليس في هذا تناقض واضح مع منطق القانون ذاته؟

أوليست حماية حقّ الآخرين بالاعتقاد واحترام مقدساتهم وكتبهم السماوية أولى من حقه وحقّ أمثاله بممارسة فعلٍ ظاهرهُ حقٌّ وحريةٌ وجوهره تعسّفٌ وإساءةٌ وتمادٍ!

كيف يمكن قياس مسألة حق فردٍ في التعبير عن رأيه ومعتقده إذا كان جوهر الممارسة هو الإساءة لرأيِ أو معتقدِ فردٍ آخر أو جماعة أخرى؟ أوليس السماح لهذا الشخص بممارسة حقّه فيه منع للآخرين من ممارسة حقهم المفروض أنه مصان بالقانون؟ أوليس في السماح لهذا الشخص بحرق المصحف الشريف مثلاً تجاوزٌ على حق فردٍ واحدٍ على الأقل من المسلمين ممن يعتبرون ذلك الأمر اعتداءً صارخاً على أحد مقدساتهم؟ فكيف نفاضل بين الحقين؟ أوليس من الأفضل بمقاييس عديدة تطبيق مبدأ سدّ الذرائع وعدم السماح للمذكور وأمثاله القيام بمثل هذه الأفعال حفاظاً على الأمن العام، أوليست حماية حقّ الآخرين بالاعتقاد واحترام مقدساتهم وكتبهم السماوية أولى من حقه وحق أمثاله بممارسة فعلٍ ظاهرهُ حقٌّ وحريةٌ وجوهره تعسّفٌ وإساءةٌ وتمادٍ!

المنطق يقول بأنّ درء المفاسد أولى من جلب المنافع، وهذا جوهر القانون أيضاً، ومن هذا المنطلق تطوّرت القوانين لتسمح للدولة بالتدخّل في شؤون الأسرة لتنظيمها وتوسيع مساحات فعلها على حساب مساحات فعل الأهل، فلم يعد بمقدور الأبوين مثلاً ممارسة ضروب التأديب التي كانت سائدة قبل بضعة عقود، أفلا يكون من الأولى تضييق مساحات الحرية الفردية المنفلتة مقابل صيانة حقوق عامة أكثر حساسية وتعلقاً بالأمن العام!

الموازنة بين ما نراه حقاً مقدساً يجب عدم المساس به – نحن الشرقيين من عرب ومسلمين – وبين ما يعتقده المجتمع السويدي والأوروبي عموماً حقاً طبيعياً أمرٌ ليس بالهيّن، فاختلاف الثقافات والمرجعيات ومستويات التطوّر تلعب دوراً هاماً وحاسماً في ذلك. ومع هذا كلّه يبقى أنه لا يجوز تمكين صاحب حقّ من الاعتداء على حقوق الآخرين، وإلا وجدنا أنفسنا ومجتمعاتنا البشرية في منزلقات خطيرة لا تحمد عقباها.