الحسكة قحط وغوانتانامو

2020.07.08 | 00:00 دمشق

alhskt.jpg
+A
حجم الخط
-A

الحسكة تنافس، في هذه الفترة، العاصمة دمشق في نشرات الأخبار، وتتفوق عليها. جوع وعطش واحتلالات داخلية وخارجية وغوانتانامو جديد بحراسة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الحاكم في الجزيرة السورية. صارت هذه المحافظة المنسية تاريخيا أرض التجاذب بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة وروسيا، وباتت هناك عدة قواعد عسكرية للدولتين منتشرة على هذه الجغرافيا التي تشكل ثلث مساحة سوريا، بينما يتقدم على أرضها المشروع الكردي شيئا فشيئا في ظل تململ واعتراض كبير من العرب والمكونات الأخرى من دون وجود مشروع جدي مضاد أو دعم فعلي. وفي هذه المناسبة لا يمكن إغفال مشروع إيران السرطاني في منطقة الجزيرة غير المنفصل مشروعها الشامل في المنطقة، غير أنه يعمل هنا وفق آليات طائفية لتفتيت البنى التي حمت هذه المنطقة وشكلت هويتها.

قبل أن يتم اكتشاف النفط واستغلاله في نهاية الستينات من القرن الماضي، كانت الحسكة تعيش من الزراعة. وشكل نهر الخابور شريان الزراعة الحيوي على ضفتيه في امتداد 320 كم، من مدينة رأس العين على الحدود السورية التركية جنوبا حتى المصب في نهر الفرات في شرق مدينة البصيرة، مرورا بمركز المحافظة، ومدن الشدادي، ومركدة. وكان القطن سيد الزراعة على ضفاف النهر، وغير بعيد تمتد مزارع القمح والشعير والعدس التي تعتمد أكثر فأكثر على مياه الأمطار، ما خلا بعض المشاريع الكبيرة التي مدت مياه الخابور نحو الأراضي البعلية كما فعل السيد حمود العلي الخليف في الستينات، ولا تزال أنابيب الفولاذ جاثمة وسط زحف الرمال منذ أن غزا التصحر المنطقة بعد جفاف الخابور في الثمانينات، في واحدة من أكبر اللعنات التي حلت على المنطقة في زمن حافظ الأسد، الذي كرس عهده لبناء السجون وأجهزة المخابرات التي  تشكلت من فرق القتلة المحترفين الذين ارتكبوا المجازر منذ عام 2011 دفاعا عن حكم آل الأسد، ولا يزالون حتى اليوم.

حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي الذي يلهج صباح مساء بإقامة مشروع غرب كردستان( روج آفا)، ركب قطار الحرب على الإرهاب موضة العصر الإسرائيلي، وصار كل من يختلف معه داعشيا وفي أخف تهمة بعثيا. استنسخ حيل النظام السابق حين كان يعمل على تبعيث الأكراد وتعريبهم. ونجح هذا الحزب في إقامة غوانتانامو جديد في الحسكة. هذا التنظيم أكثر الذين حلبوا البقرة الداعشية، ولا يزال يرضع من ثديها حتى الآن: مخيم كبير في الهول يسرب منه أطفالا خلفهم شذاذ الآفاق الدواعش وتركوهم إلى مصير مجهول. سجن الصناعة في الحسكة الذي بات مبرمجا على الاستعصاء كلما أرادت قيادة حزب الاتحاد الديموقراطي أن تبتز الولايات المتحدة وأوروبا.

تعيش الحسكة على الجوع رغم الإنتاج الوفير من القمح، وفي هذا العام هناك محاصيل وفيرة جدا، لكن الناس تشكو الفاقة. القاعدة التاريخية في الجزيرة كلما زاد الإنتاج عم الفقر وانتشر الجوع. هذا هو الحال في زمن الأسدين الأب والأب، وكان الناس يتندرون على أن موازنة محافظة الحسكة التي ترفد الخزانة المركزية بحوالي 40 % من العائدات لا تعادل موازنة حي في المحافظات الكبرى مثل دمشق وحلب. وحتى يومنا هذا ليس هناك مشافٍ أو جامعات أو مصانع تليق أو ترقى إلى مساهمة المحافظة التي تراجع منتوجها من القطن والقمح بسبب جفاف الخابور الذي ترتب عليه هجرة كبيرة في السنوات التي سبقت الثورة نحو أحزمة المدن الكبرى، وخصوصا في دمشق.

في الخمسينيات من القرن الماضي كان كثير من سوريي الداخل، وخصوصا في أرياف حماة وحمص يهاجرون إلى أميركا اللاتينية من أجل تكوين ثروات، وكان آخرون يذهبون إلى الجزيرة للاستثمار في زراعة القطن على ضفتي الخابور والفرات. أما اليوم وقد خرب حكم الأسد الاقتصاد وشرد الناس ودمر البلد، فإن الجزيرة تحولت إلى أرض بور، وإذا لم يهطل المطر بغزارة، فإن الجوع هو المصير الذي لا مفر منه، وربما تحولت إلى غوانتانامو واسع.