الحدث الأفغاني والمسألة السورية

2021.08.18 | 06:46 دمشق

ap21227742379832-640x400-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

كعادتهم منذ أن أُتيح لهم التعبير في الشأن العام في وقت متأخر نسبياً، انقسم السوريون بشكل حاد في مواقفهم من الحدث الأفغاني الأخير والمتمثل باستيلاء حركة طالبان مجددا على السلطة بعد غياب دام عقدين من الزمن إثر طردها من الأميركيين. وقد تمثّل هذا الانقسام جليّاً في وسائل التواصل الاجتماعي. ومن خلال مسح سريع لأهم معالم هذا الانقسام يتبين بأنه انحصر في ثلاث اتجاهات.

أولها، ذو التوجه الإسلامي المعتدل أو المتطرف على حد سواء والذي سرعان ما بارك للحدث معتبراً بأن انتصار هذه الجماعة المتطرفة هو انتصار للإسلام السياسي بعمومه. وهي الحركة التي قبل التطور السياسي الواضح الذي يبدو أنه طرأ على أدائها في السنوات الأخيرة، سجلت أفظع أنواع التعامل اللاإنساني مع عموم المواطنين الأفغان إبّان حكمها بين عامي 1997 و2001. واعتبرها أصحاب هذا التوجه حركة "تحرّر" مثالية ثابرت فحصدت، وصولاً للإشارة إلى أن إنجازها هذا سيكون "اللبنة الأولى في عودة الخلافة الراشدة". وقد وصل الأمر ببعض الصرخات أن توقعت امتداد الحدث الأفغاني ليشمل في القريب العاجل بلداناً محيطة وأخرى قريبة من الدولة الطالبانية الجديدة. ومن جهتها، فقد رحبت فصائل إسلامية في الشمال السوري، والتي تُعتبر من قوى الأمر الواقع المسيطرة، بهذا الانتصار. وقد شوهد عناصرها يوزعون الحلوى على المواطنين. كما صدحت مآذنها بالتكبير احتفاءً بهذا الحدث. تجلّى إذا تعبير هذا الاتجاه الرسمي بالترحيب دون الخوض كثيراً في التفاصيل لمعرفة القائمين عليه بأنها رمال متحركة ربما لا يتقنون الخروج منها إن خاضوها. أما حناجرهم وأقلامهم غير الرسمية والمتحررة من المسؤولية، فقد أطنبت في المديح وصارت تستعرض إنجازات التحرير واعتمدتها كانتصار قوى الحق على محور الشر، وصولاً للحديث عن هزيمة ماحقة للولايات المتحدة سرعان ما قورنت بالخروج السريع من فيتنام في الماضي القريب.

الاتجاه الثاني هو القومي/ اليساري الذي رحّب بهذا الانتصار بالطريقة البافلوفية المعهودة معتبراً بأنه نصر لحركات التحرير الوطنية وكأننا بغيفارا على رأس الحشود الطالبانية. وأهمل أصحاب هذا الاتجاه الخوض في التحليل لتلافي التوقف عند كل الأبعاد القروسطوية للمصير الذي ينتظر المجتمع كما حرية التعبير في البلاد. مفضلين بذلك الاستنتاجات الخشبية التي تعيد إنتاج خطاب ستينات القرن العشرين والتي تتغنى بأي انتصار، ولو متوهم، على الإمبريالية الأميركية. ولم يبذل أحد من كتاب هذا التوجه أي جهد لمحاولة فهم أبعاد هذا الانتصار المشتهى وتعقيدات المشهد ودور الاقتصاد السياسي كما الاجتماع السياسي في مقاربة الحدث بعيداً عن حصره بالبعد الديني التقليدي.

لم يقع هذا الاتجاه في فخ الظن الساذج بهزيمة أميركية ماحقة ولا هو اعتبر بأن ما حصل هو مؤامرة صنعت في واشنطن أيضاً

أما الاتجاه الثالث والأخير، مبدئياً، هو ذلك الاتجاه الذي عبر عن حزنه وتنديده بما آلت إليه الأمور مستنداً في موقفه إلى تجربة الطالبان السابقة والتي أنتجت ما أنتجته، كما المنظمات المتطرفة الشبيهة، من تعزيز للتخلف المجتمعي وإقصاء العقل وتهميش الفكر وقمع المرأة وتطبيق متشدد لتعاليم بُني العمل بها على فهم إرادي مشوّه تعزيزاً لسلطة سياسية. ولم يقع هذا الاتجاه في فخ الظن الساذج بهزيمة أميركية ماحقة ولا هو اعتبر بأن ما حصل هو مؤامرة صنعت في واشنطن أيضاً، بل حاول أن يفهم النتائج من خلال مراجعة المسار الذي قاده غزو أميركي اقتصر تفكير أصحابه على الانتقام من هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 بعيدا عن أي تصور للنظام السياسي المرتجى. كما تلت هذا الغزو العسكري إدارة محلية فاسدة حتى النخاع، كما وجيش منهزم عقائدياً. أضيف إلى كل هذه الخلطة ما يمكن اعتباره تجاهلاً وقحاً من قبل الغزاة كما أعوانهم المحليون للتعقيدات القبلية. وأخيراً، عجز مشروع التغيير الأميركي، والذي سانده الغرب، واعتمد على أجهزة إدارية محلية فاسدة، في إحداث أي تطوير مجتمعي قادر على التأسيس لمستوى من الوعي الجمعي للحداثة في حدودها الدنيا.

في مرحلة من مراحل الثورة السورية، طغت بعض التصريحات غير العقلانية التي أطلقها بعض من يحسبون على الاتجاه الليبرالي الحداثي على سواها من المواقف حين اعتبروا بأن جماعات متطرفة كجبهة النصرة هي "مكون أساسي من مكونات الثورة". وبعد أن جرى لومهم على هذا التصريح الطفولي، تراجعوا نافين أي علاقة لهم به. هؤلاء أنفسهم نجدهم اليوم يستعيدون نفس المزاج الطفولي لغدق المديح العلني أو المبطن لما قامت به حركة طالبان. وهنا تتضافر جهودهم بجهود الجماعات المتشددة التي يمكن اعتبار مديحها جزءاً أساسياً من رسالتها.

على هامش المواقف الداعمة للتحول الأفغاني الطالباني، صار من المستغرب أن نستغرب إهمال قضيتنا إعلامياً في أقل تقدير

منذ بدء الثورة السورية، يشتكي السوريون من ضعف الاهتمام العالمي عموماً والغربي خصوصاً بمقتلتهم وغياب الحديث حولها عن وسائل الإعلام الفاعلة في أوروبا والأميركيتين. وعند البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى هذا الغياب، يمكن التوقف عند أهمها وهو الذي يتعلق بفاعلية التسويق القائم للقضية والدفاع عن شرعيتها وعن عدالتها وعن سعيها إلى تحقيق التغيير الديمقراطي الذي يدمج كل مكونات المجتمع في مشروع وطني عابر للإثنيات وللأديان والطوائف.

على هامش المواقف الداعمة للتحول الأفغاني الطالباني، صار من المستغرب أن نستغرب إهمال قضيتنا إعلامياً في أقل تقدير.