الحائط المسدود في فرنسا

2020.10.21 | 00:03 دمشق

1229112469.jpeg
+A
حجم الخط
-A

في فوضى ردود الفعل التي تلت الجريمة الشنيعة التي ارتكبها شاب شيشاني مسلم يتمتع باللجوء السياسي هو وأسرته في فرنسا بحق أستاذ مدرسة تقع في ضواحي العاصمة، وإثر توضّح بشاعة ما تعرّض له الأستاذ، بدأ المشهد الإعلامي الفرنسي مسخّراً لهذه الحادثة بكل ما أوتي من إمكانات مادية وبشرية، وصار للمهتمين بعلوم الاتصال، مادة غنية للملاحظة والتحليل والاستنتاج.

وكما في إثر كل حادث إرهابي يقع في فرنسا، تتلقف وسائل الإعلام الفرصة لتسخير جُلّ برامجها للإحاطة السطحية بالواقعة. والآن، وبعد مرور أقل من أسبوع على الجريمة النكراء، يمكن التوقف عند بعض الملاحظات على أن يتم استكمالها بعد أجل متوسط تكون فيه وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية قد استنفذت الموضوع وعالجته واستهلكته.

فالملاحظة الأولى، هي الربط التلقائي لمفردة الإرهاب أينما حلّت، بمفردة الإسلامي. وربما يقول قائل بأن في هذا دقة حيث إن القاتل ومن شجّعه، استندوا إلى الدين في تبرير جريمتهم. بالمقابل، يجب أن نتذكر بأن الحوادث الإرهابية التي سبقت قتل المعلم، كان يتم فيها الحديث عن الإرهاب مُجرّداً مبدئياً من الوصف بالإسلامي، على الرغم من ورود هذا التوصيف في السياق عند الحديث عمن تبنى العمليات وعلاقتهم بإرهابيي داعش أو القاعدة. فما الضير إذا إن تمت الإشارة هذه المرة بوضوح أكثر الى الصفة الإسلامية للإرهاب؟ وبمعزل عن الحديث عن الضرر أو الفائدة.

يمكن التنبيه إلى أن هذا الربط التلقائي الذي تبناه جميع من أخبر ومن حلّل ومن علّق، وإصرارهم الدائم على استخدام توصيف "الإرهاب الإسلامي"، قد رسّخ في ذهنية المتلقي بسيطاً كان أم مطلعاً، الربط التلقائي بين الإرهاب، الإرهابي، العملية الإرهابية، الجريمة الإرهابية والإسلام والمسلمين. ربما لم تكن هذه هي الغاية، إلا أن الدراسة المحايدة للتعبير وتكراره وموسيقا كلامه لا تدع أدنى مجال للشك في هذا الربط الخطير والبعيد عن السعي في اتجاه إيجاد حلول طويلة الأمد والتأثير لمسألتي التطرف الديني والإرهاب.

ملاحظة ثانية تقفز الى ذهن المتابع والمدقّق، تتعلق بتعميم مصطلحات كانت سابقاً حكراً على اليمين المتطرف وخطابات زعمائه، لتصبح اليوم مصطلحات متبناة من مختلف الأطراف السياسية ومن مختلف وسائل الإعلام. وعلى سبيل المثال: الإسلاميون ـ اليساريون، وهو توصيف استخدمه اليمين المتطرف لتوصيف كل من وقف في وجهه من باحثين وإعلاميين فرنسيين عقلاء سعوا إلى محاولة فهم عميق وجاد للملف دون الوقوع في القوالب الجاهزة ودون إفادة الأجندات السياسوية والانتخابية لهذا الطرف أو سواه.

وقد أزعج هؤلاء اليمين المتطرف في إطار محاولاته الدائمة لتنميط المسلمين واتهامهم بكل مواجع المجتمع والاقتصاد. صار اليوم هذا المصطلح شبه معمم بقرار رسمي وصار يتردد على ألسنة السياسيين الحاكمين كوزير الداخلية كما على ألسنة المعارضة اليمينية كما اليسارية. رُفع إذا التمايز الذي كان يربط هذا التوصيف الهشّ مضموناً بين اليمين المتطرف وسواه من التشكيلات السياسية والمجموعات الإعلامية.

الملاحظة الثالثة تتعلق بغياب شبه مطلق للمسلمين عن الحوارات الإعلامية التي تدور حولهم وحول دورهم واندماجهم وحرياتهم وعقيدتهم، إلا فيما ندر. وعندما تتم دعوتهم، فسيتحوّل استجوابهم إلى شبه محاكمة هم مدانون فيها قبل

سعي الإعلام كما الساسة إلى إبراز أصوات إسلامية "نشاز" تكاد تكون في خطابها أشبه بشيوخ البلاط منهم بممثلي دين أو عقيدة

أن يعرفوا عما تبحث فيه. ومن النادر أن يتمكن أحد منهم من مواجهة الصحافي / المدعي العام الذي أمامه والذي يدير الحوار، والذي يُعزّز من موقعه باستدعاء زميل إعلامي أو محلل سياسي يساعده في معركة لي الذراع واللسان هذه. وبالنتيجة، سيُسقط في يد المتحدث الآخر ويتخندق في مواقف دفاعية تحرمه من آية وسيلة إقناع فعالة.

الملاحظة الرابعة تصب في مجرى ما سبقها لتتوقف عند سعي الإعلام كما الساسة إلى إبراز أصوات إسلامية "نشاز" تكاد تكون في خطابها أشبه بشيوخ البلاط منهم بممثلي دين أو عقيدة. فالشيخ الشلغومي على سبيل المثال، وهو نجمٌ إعلامي يتحدث للإعلام بما يرغب أن يسمعه منه، لا يتقن الفرنسية بشكل جيد، حتى يُخال للمستمع بأنه في فقرة كوميديا وليس في حضرة رجل دين. هذا "الشيخ" المسمى بإمام جامع إحدى ضواحي باريس الشرقية، سيهرف أمام الإعلام بما لا يعرف وبالتأكيد فهو إن سمع نفسه لاحقاً لن يفهم ما قاله. وبتقزيم التمثيل الإسلامي على "مهرجين" فإن بعض الساسة كما بعض الإعلام، يهدفون إلى تهميش المكون المسلم بأكمله وحصر تقديمه بأمثال هذا الشيخ.

في فرنسا مفكرون إسلاميون حداثيون ومتنورون كثر لا يجدون طريقهم إلى الإعلام إلا نادراً، كما غالب بن شيخ ورشيد بن زين وغيرهم. استضافتهم وسماع صوتهم وتحليلهم الهادئ المستند إلى معرفة عميقة بالنص الديني كما إلى تمكن واثق من العلوم الإنسانية الحديثة، يسمح بفتح نقاش جاد حول مسائل الإرهاب والهجرة والاندماج والتعايش وإدارة التنوع. هل في تهميشهم وعدم سماع صوتهم رغبة في تنميط المسلمين إما بالمتطرف القابل للتحول إلى إرهابي، أو بشيخ البلاط غير العالم بدينه والذي يردد ما يراد منه أن يردده لإرضاء الخطاب السائد؟ هل هناك سعي حقيقي لتجاوز المحنة أم هناك من يدفعها إلى حائط مسدود؟