الجولان السوري المحتلّ: نظرة سينمائية

2019.04.02 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مُجدّدًا، يحضر الجولان السوريّ المحتلّ في المشهد العام. هذا ناتجٌ من الاعتراف الأميركي الرسمي بالسيادة الإسرائيلية عليه (25 مارس/ آذار 2019). الشعبوية في ردودٍ سورية وعربية تابعة للنظام الأسديّ غير مُحتَملة، لشدّة شعبويتها وبهتانها وتهافتها. الصراع السوريّ الأسديّ مع إسرائيل مُعطَّل منذ زمن. الردّ السوري الرسمي، المُعلن باسم حافظ الأسد، على قرار الكنيست الإسرائيلي (14 ديسمبر/ كانون الأول 1981) ضمّ المرتفعات المحتلة "وتطبيق القوانين الإسرائيلية عليها"، منسجم ومسألة الصراع المعطَّل، إنْ لم يكن محرّضًا على الصراع المُعطَّل هذا، ومُثبِّتٍ إياه. دونالد ترامب يعترف، وإسرائيل تفرح، وأوروبا مرتبكة، وتابعو النظام الأسديّ يصرخون، كأنّ الصراخ كافٍ لتحرير أرضٍ مُهمَلة من مسؤولي البلد المنتمية إليه.

هذا كلام في السياسة. للجولان المحتلّ حضورٌ في السينما، قديمًا وحديثًا. الصورة المتداولة في الوعي الجماعي تُقدِّم أبناء المنطقة ـ المنقسمة على نفسها بسبب الاحتلال الإسرائيلي ـ وهم يقفون أمام بعضهم البعض، للقاء تفصله مسافة كبيرة، لكنهم يُصرّون على التحدّث معًا عبر مكبّرات الصوت. بعض هؤلاء مُقيم في الجزء المحتلّ، والبعض الآخر في سورية. السينما حاضرةٌ. اللبنانية الراحلة رندة الشهّال (1953 ـ 2008) تُنجز "طيّارة من ورق" عام 2003، مُجسِّدة ملامح بيئة ومعالم جغرافيا، لكنها تضع أحداث الحبكة في المسافة الواقعة بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي. هذا غير واقعي/ غير حقيقي. المناخ يوحي ببيئة درزية هي المُقيمة في مجدل شمس المنقسمة بين احتلال وعدم احتلال، إذْ ينعدم وجود منطقة درزية في لبنان، يحتلّ الإسرائيلي جزءًا منها، كما هو حاصل في الجولان السوريّ. 

هذا كلّه غير مؤثّر، سلبًا، على قِيَم سينمائية، درامية وسردية، حاضرة في "طيّارة من ورق". التوغّل في ثنايا البيئة، والتنقيب في أحوال أناسٍ ومشاعر وعلاقات، والصدام الصامت بين تقاليد وبراءة طفولية وقسوة احتلال، مسائل تُنبِّه المُشاهِد على معنى الهوية والانتماء والمواجهة. الانصراف إلى محاولة فهم تلك البيئة سينمائيًا، جزءٌ أساسيّ من لعبة الصورة والواقع، ومرايا الذات والبيئة، وانعكاسات الاجتماع والثقافة والسلوك في صُور تريدها الشهّال شهادة حيّة عن وقائع العيش على التخوم الحادّة مع الاحتلال.

لن يكون الاعتراف الرسمي لدونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتلّ سببًا وحيدًا لاستعادة "طيارة من ورق"

لن يكون الاعتراف الرسمي لدونالد ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتلّ سببًا وحيدًا لاستعادة "طيارة من ورق"، الفائز بالجائزة الكبرى الخاصة بلجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الـ60 (27 أغسطس/ آب ـ 6 سبتمبر/ أيلول 2003) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي". قبل أيام قليلة على الاعتراف هذا، يُصدر الموسيقيّ اللبناني زياد الرحباني (1956) أسطوانة مدمّجة بعنوان "موسيقى من أفلام رندة الشهّال صبّاغ"، تضمّ ألحانه المؤلّفة خصيصًا بالفيلم الأخير للشهّال (طيارة من ورق)، وبـ"متحضّرات" (1999) أيضًا. للرحباني دورٌ تمثيلي في "طيارة من ورق"، إذْ يؤدّي شخصية ضابط إسرائيلي يُراقب الحدود بين الجزء المحتلّ والجزء المحرّر من منظقة درزية قائمة بين لبنان وإسرائيل.

رندة الشهّال صبّاغ

حكاية بسيطة وعادية، تعيشها منطقة كهذه دائمًا: تُقرِّر العائلة تزويج ابنتها لقريبٍ لها مُقيم في الجزء المحتلّ من البلدة. الابنة مُراهِقة. تعتاد عيشًا مرفّهًا مع رفيقات وإخوة. هي غير منتبهة إلى الزواج، إذْ تراه بعيدًا. لكن التقاليد ضاغطة. لديها نظرة رومانسية ما لجنديّ إسرائيلي منتمٍ إلى المذهب نفسه. ينشأ فيها صراع بين تناقضات أقوى منها. ترضخ للأمر الواقع، فهي أصلاً غير متمكّنة من الرفض أو التمرّد. الانتقال إلى الجزء المحتلّ دونه صعوبات، أبرزها عدم السماح لها بالعودة مهما يحدث. الخروج من جزء إلى آخر، في الاتجاهين، يكون مرة واحدة وفي اتجاه واحد. تذهب إلى بعلها، لكنها تعجز عن التأقلم مع يوميات العيش في أجواء لن تكون غريبة كلّيًا عنها، لكنها تجهلها.

بين تصوير تفاصيل متعلّقة بالبيئة الدرزية، وبمواجهتها اليومية احتلالاً إسرائيليًا، ومرافقة المُراهقة في رحلتها المفتوحة على احتمالات الاكتشاف والصدمات والمَواجع، تبني رندة الشهّال عالمًا معقّدًا ومتداخلاً في منظقة مرتبكة، رغم مظهرها الهادئ، إذْ لن يحدث شيءٌ على الحدود إطلاقًا، وهذا على نقيض الغليان المعتمل في نفوسٍ وأرواح، خصوصًا في ذات المُراهقة وروحها. ورغم أن "طيارة من ورق" يميل إلى البيئة الدرزية في يومياتها، فإنّ أسئلة الانتماء والهوية والعلاقات حاضرة في سياق درامي يروي آلامًا ومصاعب، ويلتقط نبض مواجهة وتحدّيات.

أما المكان، فمبنيٌّ في منطقة لبنانية قريبة من جبل حرمون، يعيش فيها لبنانيون منتمون إلى طوائف ومذاهب مختلفة: "هناك محاولة جادّة لإعادة خلق وادي الصراخ والدموع، الموجود فعليًا، ويُسمّى هكذا لأن أبناء البلدة يصرخون وهم يتحدّثون مع بعضهم البعض عبر مكبّرات الصوت"، تقول الشهّال في وصف فيلمها هذا. ما تقوله مطابق للصورة المتداولة عن دروز الجولان، لكن جغرافية الحدث الدرامي منقولة إلى لبنان، من دون سبب مُقنع. لذا، يكمن الأهمّ في بنية النص السردي ومناخه الدرامي، مع أن اشتغالاته الفنية والحكائية مُصابة بعطبٍ يظهر واضحًا في التمثيل، وفي كتابة الشخصيات الإسرائيلية التي يبدو أداؤها متوتّرًا ومتصنّعًا. لكن "طيارة من ورق" يبقى شهادة عن وقائع العيش في بيئة منغلقة ومتشدّدة في التزاماتها التربوية والثقافية والدينية، ومُصرّة على تحدّي الانقسام المفروض عليها في جغرافيّتها.

والفيلم، إذْ يُصبح الأخير لرندة الشهّال، يُشكِّل إضافة توثيقية سينمائية على سينما لبنانية، يجتهد صانعوها في ابتكار أنماط استغالاتها، وأشكال انفتاحها على أسئلة تختصّ بالناس ومشاغلهم، وبالأفراد وهواجسهم، وبالذاكرة وتفاصيلها. فـ"طيّارة من ورق" امتدادٌ لاختبار الشهّال في صناعة صُور سينمائية مُستلّة من وقائع العيش اليومي على التخوم الحادّة للألم والقهر والمواجهة، في لبنان وفلسطين والعالم العربي.