الجوع وآلام أخرى

2020.01.29 | 23:02 دمشق

82606611_2987448677967159_1873948360717631488_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعددت الأسباب والثورة واحدة، فسوء الأوضاع على اختلاف تصنيفها مدعاة جدية لا تقبل الجدل للاحتجاج ضدها والوقوف في وجه المسبب الأساسي للتدهور المستمر في الحياة العامة أو الحقوق السياسية أو الخدمات.

الثورة في الاصطلاح السياسي تعني الخروج ضد الوضع الراهن طلباً لتحسينه ورغبة في الوصول إلى ما هو أفضل منه.

في إنجلترا اندلعت الثورة في القرن السابع عشر لأسباب دينية وسياسية كانت السبب الرئيسي لتأججها، فقد طرح الملك "جاك الأول" أفكاراً سياسية تدعو إلى الملكية المطلقة، وفرض على البرلمان آراء حول الحق الإلهي والوراثي في الحكم، وذلك على اعتبار أن الملك ليس مسؤولًا إلا أمام الله وليس مسؤولًا أمام رعاياه، بل ليس من واجبه الخضوع للقانون كونه هو القانون.

بينما قامت الثورة الأميركية بسبب تذمر مجموعة من العمال لأسباب اقتصادية، تعطي أفضلية للمنتجات الإنكليزية، وفيما بعد قامت الثورة الصناعية لأسباب تتلخص بتفضيل الآلة على البشر وتفشي البطالة.

الثورة الفرنسية التي باتت رمزاً وملهما لكثير من الثورات خرجت في البداية بسبب الجوع ونظمت وجودها السياسي وأهدافها الديمقراطية في وقت لاحق، مؤخراً أيضاً تحرك محتجو الستر الصفراء لأسباب تتعلق بغلاء الوقود، ما يعني باختصار أنه لا يوجد قانون جامع مانع يجب أن تقتصر أسباب الثورات عليه وألا تتعداها إلى غيرها.

في عام 1943 قدم "أبراهام ماسلو" ورقة بحثية بين فيها نظرية نفسية سماها "نظريّة الدافع البشري" ونشرها في دورية "المراجعة النفسية العلمية"، ثُمّ وسّع ماسلو دراسته لتشمل مُلاحظاته حول الفضول البشري الفطري.

تتبع نظريته فرع علم النفس التنموي الذي يدرس تطوّر ونمو الإنسان خلال

أهم الأسباب التي تحرك الإنسان هي الحاجات الغريزية بشكل مبدئي، وعليه من الممكن أن يكون "الجوع" السبب الأكثر أهمية على الإطلاق لانطلاق الاحتجاجات في أي مكان من العالم

المراحل المختلفة من حياتِه، وتناقش هذه النظرية ترتيب حاجات الإنسان ووصف الدوافع التي تُحرّكه؛ وتتلخص هذه الاحتياجات في: الاحتياجات الفسيولوجية، وحاجات الأمان، والاحتياجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير، والحاجة لتحقيق الذات.

ما أردت قوله من هذه المقاربة أن أهم الأسباب التي تحرك الإنسان هي الحاجات الغريزية بشكل مبدئي، وعليه من الممكن أن يكون "الجوع" السبب الأكثر أهمية على الإطلاق لانطلاق الاحتجاجات في أي مكان من العالم، وفي هذا رد مقنع على كل من ينتقص من ثورة أو احتجاج حركه الجوع ووصفه على أنه سبب غريزي متدني القيمة، لا يستحق الحراك ومدعاة للشتم والانتقاص من المحتجين بسببه.

فالغضب الذي يسببه جوع طفل أمام والديه أو تلاشي صحته بسبب ضيق الحال، قد لا تستطيع كل نظريات العالم الثورية التي يؤمن بها النخب والمثقفون أن تفعله، وقد تعجز القضايا السياسية أن تدفعه إلى الخروج والصراخ في وجه الطغاة الذين سببوا له هذا الذل وتسببوا لابنه بهذا الألم، لأن غريزة البقاء هي الدافع الأكثر قوة لدى الكائن البشري في الواقع.

أما لو أردنا أن نكون أكثر واقعية وإذا نظرنا من زاوية أخرى، فمن الممكن أن تكون أولويات كل شخص مختلفة عن الآخر وبالتالي دوافعه للتحرك والثورة تختلف من شخص لآخر، لكن ذلك لا يمكن أن يكون سبباً للتقليل من أي تحرك يختلف في أسبابه عن أسبابنا الأكثر قيمة وفقاً لوجهة نظرنا.

الثورات قد تمتد عقوداً قبل أن تبدأ بجني أهدافها التي خرجت للمناداة بها، ومن باب العدالة والإنسانية ألا نضع أنفسنا حراساً على ضمائر الآخرين الذين يختلفون معنا في التوجهات، أو أن نجعل من أنفسنا جلادين لهم فقط لأنهم تأخروا من وجهة نظرنا عن الانتماء لما ننتمي إليه، وإلا فما الذي نختلف به عن الطغاة الذين خرجنا ضدهم.

ما من أحد عاقل ويمتلك حساً إنسانياً، قد يختلف على وحشية وإجرام النظام السوري ولا قد يمكن أن يقلل من حجم المقتلة التي عاشها السوريون في الداخل والخارج عبر ما يقارب العقد منذ سقوط أول شهيد، لكن ذلك لا يعني أن ندير ظهورنا لآلام إخوتنا في الداخل أو نقلل منها ونقزمها، ونعتبرها أمراً غريزياً بغيضاً لا يستحق الثورة من أجله ولا التعاطف معه، بل من الحكمة هنا أن نؤيد حراكهم ونمد لهم يد العون، لأن تراكم الوعي يحتاج جهداً ووقتاً وصبراً ممن يعتبرون أنهم سباقون في الثورة وأنهم نخبة، ولأن مسألة الوعي تختلف من شخص إلى آخر لأسباب كثيرة يصعب إيجازها في هذه العجالة.

فالقيم والمبادئ على الرغم من حاجتنا إليها واحترامنا اللامتناهي لها، قد يعتقد آخرون أنها لا تسمن ولا تغني من جوع أو مثلما يقول حال كثيرين من أبناء سوريا اليوم "ما بتطعمي خبز"، وربما يتحمل كثيرون منا وزر هذه اللحظة

لم يعد الوضع السوري يقبل من التقسيمات أكثر مما هو عليه الآن، ربما حري بنا أن نعيد حساباتنا لنجد طريقة توحدنا في الأزمات لا أن نجعلها أكثر تفريقاً لنا

التي أصبح فيها أكثر من 80 بالمئة من الشعب السوري تحت خط الفقر، وربما علينا أن نكون على قدر المسؤولية التي وجدنا أنفسنا فيها وأن نأحذ بيدهم ونقدم لهم شتى أنواع المساعدة لا أن ننصب أنفسنا جلادين لهم لتزداد الفجوة بين الجانبين.

لم يعد الوضع السوري يقبل من التقسيمات أكثر مما هو عليه الآن، ربما حري بنا أن نعيد حساباتنا لنجد طريقة توحدنا في الأزمات لا أن نجعلها أكثر تفريقاً لنا.

ما يسمى بثورة الجياع مع تحفظي على المصطلح ليس عاراً ولا شتيمة، العار هو الجوع بحد ذاته وصمتنا عنه وعجزنا عن تقديم يد العون لمن يرزح تحت هذا الظلم في أي مكان من العالم، وشماتتنا بأبناء جلدتنا ممن يعانون هذا القهر.

كلمات مفتاحية