الجنسية من القبيلة إلى الشركة

2021.06.15 | 06:17 دمشق

alhswl-ly-aljnsyt-fy-dwl-awrwbyt-mtl-lldyd-mn-alrb.jpg
+A
حجم الخط
-A

تزايدت في الآونة الأخيرة في وسائل التواصل الاجتماعي منشورات، يعلن فيها اللاجئون السوريون حصولهم على جنسيات البلدان التي لجؤوا إليها في السنوات الماضية، وتحديدا دول أوروبا الغربية. وعادة ما تصاحب تلك المنشورات صور جوازات السفر التي تعد أحد أهم الدوافع وراء سعي السوريين لاكتساب الجنسية. وتوحي التعليقات على تلك المنشورات بمشاعر الغبطة، وربما "الحسد" من قبل الأصدقاء والأقرباء والزملاء الذين يعيشون في الدول العربية عامة، وفي دول الخليج خصوصا، وهؤلاء أمضى بعضهم ردحا طويلا من حياتهم هناك، ولكنهم ما زالوا يعاملون على أنهم أجانب، على الرغم من أن أولادهم نشؤوا في تلك البلدان، وربما لم يعرفوا وطنهم الأم (سوريا) إلا من خلال الزيارات المتقطعة في أثناء الإجازات الصيفية، أو القدوم للدراسة في الجامعة أو الزواج.

يغيب عن الحوارات حول أسباب صعوبة الحصول على الجنسية في بعض البلدان، وسهولتها في بلدان أخرى، معرفة الدوافع وراء منح الجنسية

ثمة أمر ينبغي أخذه بالحسبان في هذه المنشورات، وهو غياب الاعتزاز بالهوية الوطنية الأصلية، فقد يمر حصول الأفراد من دول أخرى على جنسيات جديدة من دون أن يستدعي مظاهر البهجة والفرح، لكن الشأن في الحالة السورية مختلف، فالحاصل على الجنسية يبتغي على الأرجح من وراء منشوره الإعلان عن الانتماء إلى هوية جديدة، لا يعنيه إن كانت تغاير الهوية الأصلية أو تشكل نقيضا لها، ولكنه يعرف أنها تتفوق عليها من ناحية قوة جواز السفر نفسه الذي يثوي في وعي الفرد أو لا وعيه في معيار الاختيار والموازنة بين الجنسيتين.

يغيب عن الحوارات حول أسباب صعوبة الحصول على الجنسية في بعض البلدان، وسهولتها في بلدان أخرى، معرفة الدوافع وراء منح الجنسية، والرؤية الأيديولوجية التي تنطلق منها الدول في هذه القضية، ولاسيما في ظل التناقض الظاهر بين دول متقدمة، لا يبدو فيها الحصول على الجنسية أمرا صعبا، ودول متخلفة تفتقد إلى الخدمات الأساسية، تعد فيها شروط الحصول على الجنسية ضربا من المستحيل في كثير من الأحيان.

عرف البشر عبر تاريخهم الطويل مجموعة من الانتماءات، أو ما نسميه بلغتنا الحقوقية المعاصرة الجنسية. وهي اصطلاح حديث نشأ بفعل مجموعة من العوامل التي أدت إلى تشكل الدولة في صورتها المعروفة حاليا. في المجتمعات القبلية، تسود عادة رابطة الدم بين أفراد القبيلة الواحدة، فينسب الفرد إلى القبيلة، فيقال مثلا: هذا تميمي، وذاك هذلي.. وهو أمر يوازي بلغتنا المعاصرة تمييزنا بين أميركي وفرنسي ومصري..إلخ. واستنادا إلى رابطة القبيلة والدم يحصل الفرد على الحماية من القبيلة، لقاء قيامه بالواجبات التي تفرضها على أتباعها أو أبنائها.  وقد تضطر القبيلة إلى سحب هذا الحق، فيغدو الفرد بلا غطاء حقوقي، وهو أمر يجعله عرضة للقتل وللتعرض لكل أشكال الأذى، دون أن يطالب أحد بالقصاص من القتلة أو المعتدين. ونرى أمثلة على ذلك في تاريخنا القديم عند الصعاليك، فهم مجموعة من الأشخاص الذين تخلت عنهم قبائلهم، وخلعتهم، أي: أسقطت عنهم "جنسياتها"، فتحولوا إلى "منزوعي الجنسية".

مع الدين الإسلامي، وتحوله إلى دولة، أنهى الدين الجديد الرابطة القبلية القائمة على الدم، وأحل بدلا منها الرابطة الدينية (المعتقد)، وهذا أمر ينطبق على كل الدول في العالم الوسيط، ولم يكن خاصا بالدولة الإسلامية وحدها. دولة الخلافة الإسلامية التي استمرت حتى عام 1923م، كان معيار الانتماء إليها هو المعيار الديني، فلدينا المسلم، ولدينا الذمي الذي يحتل وضعية المواطن من الدرجة الثانية، لأنه يخالف المعتقد الأساس لسكان البلد. كان المسلم، مثلا، ينتقل في أراضي الدولة الإسلامية على اتساعها، فتبقى له الحقوق نفسها، أو قد يهاجر إليها من دول أخرى غير إسلامية، فيحصل على الحقوق ذاتها التي يحصل عليها المسلمون. باختصار فإن المعتقد الديني هو ما يشكل أساس الرابطة في الدول الدينية. لكن المساواة الحقوقية لا تعني المساواة السياسية، فالعربي، على سبيل المثال، في فترة حكم الدولة الأموية كان مقدما على غيره من المسلمين، وكذلك كان شأن الفارسي في الدولة العباسية، والتركي في الدولة العثمانية.

الانقلاب على هذه النظرة الدينية ظهر في العالم الغربي، ففي أوروبا نشأت الدولة الوطنية الحديثة التي استندت إلى فكرة الأرض بوصفها المحدد الأساس في انتماء الأفراد إلى الدولة. جاء هذا الانقلاب بفعل عوامل كثيرة أصابت رؤية الكون والحياة والناس لدى الإنسان الأوروبي، وأدت إلى تراجع الرابطة الدينية، على رأس تلك العوامل: الصراع بين الكنيسة والسلطة السياسية، وحركة الإصلاح الديني، والثورة الصناعية، والاكتشافات العلمية والجغرافية، وكلها عوامل أدت إلى انحسار دور الدين في الحياة العامة، ونمو فكرة القومية، أي الدولة التي تضم مجموعة بشرية محددة، تنتمي إلى عرق واحد، وتسكن في منطقة جغرافية واحدة. هكذا تفككت الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى مجموعة من الدول القومية. ثم انتشرت الأفكار القومية في بقية بلدان العالم بفعل الاستعمار والمثاقفة..إلخ، وكان للفكرة القومية الأثر الأكبر في تفكك الدولة العثمانية بفعل نمو الشعور القومي بين قومياتها المختلفة.

مع التطور الرأسمالي، وحاجة الرأسمالية إلى عمال في المصانع، ودافعي ضرائب، ومستهلكين، لم يعد المجتمع الصناعي معنيا بأصول الفرد، ولا بمعتقداته، لأن الرأسمالية تنظر إلى الفرد على أنه قوة عمل في عجلتها الباحثة عن الربح وتكديس المال. الدولة الرأسمالية المعاصرة لا يعنيها مطلقا شعور الفرد نحو بلده الأم، ولا تهتم كثيرا بمعتقداته الدينية، لأنها تمتلك من المؤسسات ما يمكنها من صهر الفرد ضمن عجلة الاقتصاد الرأسمالي، فما يعني النظام الرأسمالي في المقام الأول أن الفرد "الكائن الاقتصادي" سيكون دافع ضرائب. ولذلك، لاحظنا في السنوات الماضية أن الدولة التركية- وهي دولة قومية- قامت بتسهيل إجراءات الحصول على الجنسية، إذ يكفي استثمار مبلغ مالي معين حتى تمنحك الحكومة الجنسية، وهي سياسة جديدة ناتجة عن عمق التحولات التي شهدتها تركيا فيما يتصل بالانتقال من دولة قومية إلى دولة تتبنى النظام الرأسمالي.

أصبحت الشركات في كثير من الأحيان أقوى من الدول نفسها. وربما لن يتأخر الوقت حتى نرى الشركات تتحول إلى ما يشبه الدول العابرة للقوميات

المجتمعات العربية مجتمعات تقليدية لم تدخل عالم الحداثة، ولم تتحول إلى مجتمعات رأسمالية تستقطب العمالة، فهي مجتمعات تقوم على الريع. لهذا كله، بقيت ذيول العلاقات الأبوية في هذه المجتمعات، بما في ذلك عدم منح الجنسية لأبناء المواطنات اللواتي يتزوجن من "أجانب"، لأنها تنظر إليهم كما كانت القبيلة تنظر إلى أبناء بناتها اللواتي تزوجن من قبائل أخرى، فهم غرباء، لا يؤتمنون على "أسرار" الدولة، ولا يمكن أن يدافعوا عنها.

يقف العالم اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، تتآكل فيها حدود الدول، وتزداد فيها وتيرة التطور العلمي والتقني، بحيث أصبحت الشركات في كثير من الأحيان أقوى من الدول نفسها. وربما لن يتأخر الوقت حتى نرى الشركات تتحول إلى ما يشبه الدول العابرة للقوميات، فتعطي عمالها المزايا الحقوقية التي كانوا يحصلون عليها من دولهم التي أصابها العطب والذبول. هل سنشهد في المستقبل شركات تصدر جوازات سفر لموظفيها تسمح لهم بالانتقال بين "الدول"؟  لا أعتقد أن الإجابة، في ضوء ما نراه من تغيرات، ستكون النفي.

كلمات مفتاحية