"الجماهير" ليست دائما على حق

2023.01.18 | 06:17 دمشق

"الجماهير" ليست دائما على حق
+A
حجم الخط
-A

أثارت زيارة رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية إلى الشمال السوري "سالم المسلط" والتي تعرض فيها لاعتداء عند محاولته المشاركة في مظاهرة يوم الجمعة الفائت في مدينة "اعزاز"، لغطاً كبيراً في الشارع السوري المعارض لحكم عائلة الأسد، ولا أريد في هذا المقال أن أتناول تفاصيل حادثة الاعتداء، ولا نقاش صحة أو خطأ المواقف المتعددة والمتباينة منها، ما أريده هنا هو مناقشة دلالات تباين هذه الآراء لا سيما أنها صدرت عن سوريين يتقاطعون بصفتين أساسيتين، الأولى أنهم معارضون لنظام الأسد، ويرفضون أي شكل من أشكال التطبيع أو المصالحة معه، والثانية أنهم يعتبرون الائتلاف الوطني المعارض غير مؤهل لتمثيل الثورة السورية، وأنه مرتهن لأطراف خارجية.

باستعراض سريع للمواقف التي برزت بعد حادثة زيارة رئيس الائتلاف يمكننا تمييز ثلاثة مواقف أساسية :

الأول: يؤيد ما تعرض له رئيس الائتلاف ويراه منطقيا بسبب ما يرتكبه الائتلاف من متاجرة وخيانة بحق الثورة وبحق سوريا.. وأن ما حدث من طرد، أو ضرب لرئيس الائتلاف هو ممارسة معروفة ومألوفة وتحدث في معظم الدول الديمقراطية، ومن يعمل في الشأن العام يجب أن يتوقع ردود فعل حول دوره وعمله، فهناك رؤساء دول تعرضوا للضرب بالبيض والأحذية وحبات "الطماطم" وغير ذلك.

الثاني: يرفض الطريقة التي عومل بها، ويرى أن حرية الرأي تتيح منعه من المشاركة وإخراجه من الحفل، لكنها لا تجيز إهانته وضربه وخصوصا أن عملية الضرب تمت بعد انسحاب "المسلط " من الحفل ووصوله إلى سيارته.

الثالث: يعتبر أن من قاموا بالفعل هم تابعون لجهة تعمدت الإساءة لرئيس الائتلاف لأسباب أخرى تتعلق بمصلحة هذه الجهة التي تقف موقفا رافضا للائتلاف ودوره.

لماذا لم تؤسس الثورة أي معيار أخلاقي في التعامل بين من يفترض أنهم يناصرون الثورة، ويعتبرون أنفسهم شركاء فيها!؟

رغم تعدد الآراء حول حادثة الاعتداء إلا أن هناك تقاطعا رئيسيا له دلالة بالغة، فكل الآراء المذكورة بحثت في دوافع الحدث ومدى صوابيته، وهل يجوز أو لا يجوز، لكن ما من جهة من الجهات التي تتبنى أياً من هذه الآراء طرحت السؤال الأهم، أو الأسئلة التي يجب أن لا تغيب عند محاكمة أي حدث مثل هذا، وأقصد سؤال الجدوى من الفعل، وما هي انعكاساته، وكيف يمكن التأسيس عليه من أجل مواجهة الائتلاف (سؤال برسم من اعتبروا الفعل إيجابيا وضروريا لمواجهة الائتلاف ووضع حد لتفريطه بحقوق السوريين) والسؤال الأهم برأيي وهو بعد عشر سنوات من عمر الثورة لماذا لم تؤسس الثورة أي معيار أخلاقي في التعامل بين من يفترض أنهم يناصرون الثورة، ويعتبرون أنفسهم شركاء فيها!؟

لم تنتج الثورة السورية خلال سنواتها العشر السابقة أية نواظم أو معايير أخلاقية رغم أنها دفعت خلال هذه السنوات أثمانا فادحة بسبب غياب هذه النواظم الأخلاقية، ولم تهتم بإقرار مدونات سلوك تضبط علاقة أفرادها وهيئاتها، وتحولت الثورة من خلال الفوضى العارمة التي اجتاحتها إلى محرقة تحرق أبناءها، لدرجة أنه يمكن القول إن الثورة السورية من أكثر الثورات التي عرفها التاريخ طردا لأبنائها، والأدهى من ذلك أن مخلصين كثيرين للثورة تمت الإساءة لهم وتم إبعادهم، أو انسحبوا بمحض إرادتهم بعدما شاهدوا كيف تدار الثورة، وكيف تتم تصفية حسابات شخصية لا علاقة للثورة بها باسم الثورة.

تعكس الآراء  التي ذكرت سابقا حول ما جرى في مدينة اعزاز أيضا وجها آخر، وهو أن "الشعبوية" لاتزال حاضرة كعامل أساسي في صناعة الرأي العام للثورة، أو في التأسيس لمواقف سياسية لأطراف وشخصيات كثيرة، وفي هذا خطر كبير على مسار الثورة وعلى النتائج التي يمكن الوصول إليها، فالتحريض والشحن العاطفي واستحضار الدم والقهر والجوع عند الدفاع عن رأي ما، غالبا ما ينتج موقفا خاطئا، لأنه ينبني أساسا على الانفعال، وليس على المحاكمة المنطقية التي تنطلق من محددات واضحة، وتسعى إلى نتائج وأهداف واضحة أيضاً، وهذا المنهج (الانفعال والتحريض) كان الأكثر حضورا عند أصحاب هذه المواقف، بينما غاب أي حوار حول الجدوى، وحول ضرورة التأسيس لفعل عام يتصدى للائتلاف وطريقة تعامله وفعاليته، فيضبط عمله أو يؤسس لإسقاطه.

لست هنا بوارد تحميل المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك في حادثة طرد رئيس الائتلاف والاعتداء عليه في مظاهرة اعزاز، لكنني أحمّل الائتلاف المسؤولية الكاملة عن غياب أي معايير أو ضوابط للعمل السياسي المعارض بعد ما يزيد عن عشر سنوات من سيطرته على الموقع الأهم في مؤسسات وتعبيرات الثورة السورية، فقد أثبتت هذه السنوات العشر أن الائتلاف لم يتعامل لحظة واحدة بدلالة الثورة وواقعها وحاجتها، بل كان دائما يتعامل بدلالة الأطراف الدولية، وسياسة هذه الأطراف وواقعها وحاجاتها، وبالتالي هو من أسس للقطيعة القائمة بينه وبين أبناء الثورة، وهو من يتحمل مسؤولية سيطرة الأطراف الخارجية على مجمل القرار السياسي للثورة السورية.

لا تبرر مسؤولية الائتلاف الكاملة عن الحال الذي تعيشه الثورة السورية اليوم إحجام الكثيرين عن نقد ما تقوم به جماهير الثورة أو حاضنتها، ولا تبرر عدم التصدي للفكرة الخاطئة التي سادت ولاتزال منذ انطلاقة الثورة السورية، والقائلة إن الجماهير دائما على حق، وأن كل ما تتفق عليه الجموع يكون صائبا دائما، فإن من أولويات الثورة أن تنزع القداسة عن الجموع، فلا قداسة للجموع، وغالباً ما تكون الاندفاعات المنفعلة لجماهير فكرة ما، مدمرة لهم، والتاريخ مليء بالأمثلة.

الثورة التي لاتطلق الرأي وتحميه وتدافع عنه مهما كانت درجة اختلافه هي ثورة ناقصة، وتحمل علة في بنيتها قد تقضي عليها

من بين العوامل المهمة التي أضعفت الثورة السورية هي مجاملة الفكرة السائدة، وعدم نقدها حتى لو كانت خاطئة، ليس هذا فحسب بل إن هذه الفكرة تحولت تحت ضغط انتشارها إلى سيف للإرهاب يسلط على رقاب كل من يحاول نقدها، ولم يبق الإرهاب بالحشود حصرا على الفكرة بل شاع استعماله من قبل أشخاص أصبح لهم "شبيحة" خاصة بهم يهاجمون كل من يخالفهم بالرأي، وفي كل يوم نلمس نتائج انتشار هذه الشعبوية وتزعم طائفيين أو باحثين عن شهرة أو مصلحة ما.

لا يمكن أن تنجح ثورة يخاف قسم من مناصريها القسم الآخر إن عبروا عن رأيهم، فالثورة التي لا تطلق الرأي وتحميه وتدافع عنه مهما كانت درجة اختلافه هي ثورة ناقصة، وتحمل علة في بنيتها قد تقضي عليها.

لا أحد فوق النقد، بما في ذلك الثورة ذاتها، فالثورة التي تمنع النقد لأي سلطة، أو جهة، أو اعتبار، ليست ثورة.