الجريمة والعقاب

2022.04.13 | 07:48 دمشق

24a6e16e-c0f8-4966-bde6-4174ba621727.jpg
+A
حجم الخط
-A

مثلما جرت العادة اجتمع مجلس الشعب السوري مؤخراً ليقر ما هو معدّ سلفاً، إذ وقّع في هذه المرة على تعديلات طالت مواد محددة في قانون العقوبات قبل أن تصدر بمرسوم عن طريق رأس النظام السوري.

خصّ التعديل المفترض عدداً من المواد في قانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم “148” لعام 1949 وتعديلاته، إذ شمل المادتين “285” و”286″ ليفرض عقوبة الاعتقال المؤقت على من أسهم في نشر دعوات للمساس بالهوية الوطنية أو القومية أو “إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية”، وفق ما نقلته الوكالة السورية الرسمية للأنباء.

أعاد النظام السوري بهذه التعديلات إحياء تفعيل العقوبات التي تحاسب على النّيّات وفق قراءته وتحليل أجهزة مخابراته

وفرض العقوبة نفسها على من ينقل أنباء كاذبة أو مبالغًا فيها من شأنها بث اليأس أو الضعف بين أبناء المجتمع، كذلك فرض القانون الجديد عقوبة على كل شخص يذيع أنباء كاذبة أو مبالغًا بها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها، وكل شخص يُذيع أنباء من شأنها تحسين صورة دولة معادية للمساس بمكانة الدولة السورية، بالحبس ستة أشهر على الأقل، ويُعاقب القانون كل شخص كتب أو نشر خطابًا يدعو فيه إلى اقتطاع جزء من الأرض السورية أو التنازل عنها، بالحبس سنة على الأقل.

أعاد النظام السوري بهذه التعديلات إحياء تفعيل العقوبات التي تحاسب على النّيّات وفق قراءته وتحليل أجهزة مخابراته، مستخدماً مصطلحات فضفاضة لا تعريف لها في متن المواد الحقوقية، وذلك بالضغط على الحسّ الوطني للجمهور الذي ما يزال مقدساً على الرغم من سنوات الحروب والذل والاستبداد التي عايشناها جميعاً.

يحاول النظام السوري ومجلسه التشريعي الإصرار على تقديم أنفسهم على أنهم رعاة دولة القانون وحُماتها، ويتحفون الشعب السوري في كل مرة بتعديلات لا تستطيع معظم شرائح المجتمع فك شيفراتها، لا سيما باستخدام مصطلحات مثل هيبة الدول وبث اليأس وما شابه، فهي طلاسم يستعصي فكها حتى على الاختصاصيين.

غير أن الخطاب المستخدم في هذه المرة يبدو مختلفاً تماماً وغير معني بالجرائم السياسية التي كان يلصقها بمعارضيه، إذ يبدو من سياق الكلام أن الخطاب موجه للبقية المرابطة في سوريا من مؤيديه ممن ضاق بهم الحال بعد الأزمات الاقتصادية المتتالية، وبعد الحصار الخانق الذي يعيشونه سياسياً واقتصادياً وبسبب سوء الخدمات وشح الموارد المستمر باضطراد.

إذ نصّ القانون الذي جاء في إحدى مواده "كل سوري يذيع وهو على بيّنة من الأمر أنباء كاذبة أو مبالغاً فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها يعاقب بالحبس ستة أشهر على الأقل"، في حين كانت المادة قبل التعديل تنصّ على العقوبة ذاتها على كل سوري "يذيع في الخارج" الأنباء المذكورة.

وأضاف التعديل العقوبة ذاتها، أي السجن لمدة ستة أشهر، لـ "كل سوري يذيع أنباء من شأنها تحسين صورة دولة معادية للمساس بمكانة الدولة السورية"، وذلك بعد ارتفاع نسبة المقارنات التي يعيشها السوريون بين مناطق النظام ومناطق الشمال غير الخاضعة لسيطرته أو مع اللاجئين في دول الجوار، ففرض الصمت هو العقاب الجديد الذي يمارسه النظام بعد التجويع ضد من تبقى من السوريين في الداخل.

وصل اختناق السوريين في هذه الفترة للذروة وبلغ حنقهم أوجه وباتوا يتحدثون ويمتعضون ويتململون، الأمر الذي قضّ مضجع النظام وأنذره بدنوّ خطر جديد قد لا يتحمله في هذه المرة لأنه قادم ممن عوّل عليهم في دعمه، فقرر التلويح بعصا القانون والعقاب من أجل قطع الطريق على من تسوّل له نفسه التمرد على الوضع القائم.

من المعروف والجلي أن الوضع السياسي والإقليمي للنظام غير محمود ويبدو أنه غارق في مستنقع يصعب الفكاك منه في الوقت الراهن، بوجود قوىً إقليمية ودولية تعبث في البلاد من شرقها إلى غربها مع عجزه التام عن إحداث تغيير، بعد أن ضحى بكل شيء مقابل استفادته من إطالة عمره في السلطة، ولا مجال لديه للانشغال بمشكلات شعبه الذي لطالما اعتبرها ثانوية وبالتالي كان عليه أن يرفع لديهم الوازع الوطني بضخٍ قانوني وإعلامي مكثف لتذكيرهم بأن عليهم تحمل مسؤوليتهم في حلّ المشكلات الوطنية، ليشعروا بالخجل من مطالبهم الدنيوية مثل وجود حياة كريمة من مأكل وملبس ومشرب وخدمات أمام الأزمة التاريخية التي تعيشها الدولة، فتصغر مشكلاتهم وتتضاءل حتى تضمحلّ مع الوقت لمصلحة البلاد التي احتكرها النظام وشركاؤه وسرقوها قولاً وفعلاً.

لا يمكن لدولة هجّرت نصف شعبها وقتلت النصف الآخر أو اعتقلته أن يكون لها هيبة تخشى على ضياعها

لا يمكن لأي شيء أن يبث اليأس في نفوس الناس أكثر من بطون خاوية وأطفال يفترشون الأرصفة بسبب عدم وجود سقف تختبئ أجسادهم الغضة في ظلّه، أو وطن يحمي طفولتهم، ولا يمكن لمواطنين يلهثون وراء رغيف الخبز أن يكون لديهم الوقت لفك الطلاسم القانونية لفهم مراد المشرع من مصطلحات مبهمة، ولا يمكن لدولة هجّرت نصف شعبها وقتلت النصف الآخر أو اعتقلته أن يكون لها هيبة تخشى على ضياعها، أما بالنسبة إلى اقتطاع أجزاء من الدولة فلا يمكن للنظام السوري أن يجد له منافساً في هذا الشأن.

هذا أمر يدركه العالم من أقصاه إلى أدناه لكن الجريمة التي يعاقب عليها السوريون اليوم أنهم سوريون وحسب، ومفاد رسالة النظام وصمت العالم تجاه موتنا المستمر حتى اليوم تقول: موتوا أيها السوريون، ولكن لا تؤلموا رؤوسنا بضجيج بطونكم الخاوية ورفضكم المستمر للموت بأشكاله المختلفة، موتوا.. فنحن نعمل لأجل قضايا عظمى لا تعبأ بصغائر الأمور التي تفكرون فيها وتلهثون خلفها.