الجدران البرلينية السورية

2022.06.23 | 06:42 دمشق

جدار برلين
+A
حجم الخط
-A

"أفعوانية" جدار برلين في أيامه، حينما كان قائماً، ويخترق أيام الألمان، لم تكن مجرد صفة لشكله، بل كانت أيضاً توصيفاً لخبث من صنعه، بحجة منع الرأسمالية من تعكير صفو عزلة الشيوعيين الهانئة، إذ كان في الحقيقة إشغالاً لعقل الألمان الشرقيين، الذين صار العبور إلى الجهة الأخرى هاجساً ملحاً لهم، هرباً من جحيم الستازي(مخابرات ألمانيا الشرقية)، ومن بلادة الحياة تحت ظل حكم الحزب الواحد والوحيد، فاستخدمته السلطات أيضاً وسيلة لكشف من يرغبون بذلك، عبر تشديد الرقابة على المكان، ووضع المتاريس المخيفة، وكاميرات المراقبة السرية.

الجدار وهو يخترق أحياء المدينة مشكّلاً بثقله وبصلافة حجارته رمزاً للحرب الباردة، كان من جهة برلين الغربية مساحة واسعة للرسم والعبث وشرب الكحول والصخب، الذي يقوم به الشبان والشابات في تحدٍ لمن صنعه. بينما كان من الجهة الشرقية مساحة بيضاء، يمنع الجميع من الاقتراب منها، تحت طائلة الموت بطلقة قناص يرابط هناك.

الحياة بالنسبة للشرقيين المحكومين بالقهر، كانت تنتهي عند حدود المكان، ما يعني أن كل من يخرج بعيداً سيمنح بداية جديدة، لا بد ستكون ممتلئة بالرفاهية والحرية.

في تبين مضمون الكلمة الأولى نعرف أن العيش بالحد الأدنى، وهو النمط الذي اتبعته الأنظمة الشيوعية التي ولت واندحرت، وما زالت تمشي عليه تلك الباقية، كان يعني بالنسبة لمن عاش تحت حكمها أنهم لن يجوعوا، ولكنهم بالمقابل لن يستمتعوا بالحصول على أنواع مختلفة من الأشياء التي يستهلكونها!

وفي هذا يمكن تصور أي معنى للرفاه حلم به سكان أوروبا الشرقية، قبل أن تنهار الأنظمة الاستبدادية التي حكمتهم!

أما معنى الحرية، فلا يحتاج لأن نشرحه، طالما أن الاستبداد ما زال يحكم بلادنا، فلا تداول للسلطة، ولا وجود لوسائل إعلامية حرة، ولا توجد آليات لمحاسبة الحكام المستبدين.. إلخ.

كان البرلينيون الشرقيون يرون كل ما سبق في بياض الجدار الذي لا يستطيعون لمس حجارته، لكنهم وحين أتيح لهم ذلك بتاريخ 9 تشرين الثاني 1989، لم يكتفوا بوضع الأيدي عليه بل قاموا بهدمه، وساعدهم في ذلك الحماس الملتهب للشباب الغربيين في تحطيم السلطة الشيوعية الباغية على الجزء الشرقي من بلادهم

كان البرلينيون الشرقيون يرون كل ما سبق في بياض الجدار الذي لا يستطيعون لمس حجارته، لكنهم وحين أتيح لهم ذلك بتاريخ 9 تشرين الثاني 1989، لم يكتفوا بوضع الأيدي عليه بل قاموا بهدمه، وساعدهم في ذلك الحماس الملتهب للشباب الغربيين في تحطيم السلطة الشيوعية الباغية على الجزء الشرقي من بلادهم، فحصل أن انهار الرمز، وفُتحت الطرق بين البقعتين الجغرافيتين، فعادت برلين واحدة وبدلاً من حديثنا عن واحدة شرقية، وأخرى غربية، صارت ألمانيا كلها موحدة، وأمسى الأمر جزءاً من ماضٍ بائس.

 

33_1.jpg

 

لم يعثر الألمان الشرقيون فعلياً على جناتهم المتخيلون في البلدان الغربية، إذ تكشف الواقع لهم ولغيرهم من شعوب أوروبا الشرقية عن مطحنة حقيقية لا بد من الرضوخ لقسوة مسنناتها، كي يتمتع المحظوظون منهم بميزات الآخرين، وهي على العموم مشروطة ومقوننة، ضمن نظام العمل السائد.

لكننا نتذكر قصة هدم الحد الفاصل بينهم وبين الآخرين، الآن، لنجعلها مدخلاً للنظر في جدران برلينية مقيتة صنعها آخرون في سوريا، ففي مناطق سيطرة النظام، يعرف من يعيشون الدمار المجتمعي هناك، أن المستقبل يبدأ خارج سطوة الأمن وحواجز الجيش والميليشيات الطائفية وداعمي الأسد من الإيرانيين والروس وغيرهم، ولهذا تراهم يحاولون المغادرة بأي شكل من الأشكال، حتى وإن اضطروا لبيع بيوتهم، ورهن أملاكهم، وما أرقام الواصلين من الشباب السوري إلى دبي خلال الشهور الماضية، إلا دليل على أن الحياة في "جنة" الممانعة والصمود والمقاومة لم تعد تصلح للبشر.

كما يدرك سوريون يعيشون في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة متعددة التسميات والمشارب والولاءات، أن الثورة ضد النظام المستبد، لم تعد حجة مقبولة تبرر لهؤلاء السيطرة على عيش الناس ومصالحهم، ولا تتيح لهم الاستهانة بالقيم الإنسانية التي يدفنونها كل مرة بجثامين من يقتلون بسبب حروبهم الداخلية.

وفي الخارج، حيث يعيش اللاجئون حول العالم، تعيش كل مجموعة من السوريين مشكلاتها الخاصة، ضمن محاولاتها التأقلم والعيش، ومن ثم الاندماج في المجتمعات المضيفة، والتي قد لا تكون مرحبة دائماً، خاصة أن قضية الوافدين أو مأساتهم قد استنقعت، وباتت ملعباً لكل القوى الإقليمية والدولية، ما يعني أن وقت عودتهم إلى وطنهم ما زال أمراً بعيد المنال!

في مثل واقع كهذا، لا يحتاج افتراض أن المجتمع السوري الذي يعيش في المنفى هو ذاته، ذلك المتروك في مناطق سيطرة النظام، أو سيطرة الفصائل، إلى إثبات. فالاختلافات طفيفة، لجهة الواقع النفسي، فالخوف من القمع الأسدي ومن أفعال الفصائل المنفلتة، يقابله الشعور بالخوف من أي تحول سياسي في البلاد الأخرى.

يحصل القلق بشكله المؤذي في تركيا، مع الموجة العنصرية التي تجتاحها بفعل تلاعب القوى السياسية ضد اللاجئين، ويحصل في بريطانيا التي فشل ترحيل بعض اللاجئين إلى راوندا في آخر اللحظات قبل إقلاع طائرتهم، ويجري في الدانمارك، وحتى في فرنسا حيث يعيش كاتب هذه السطور، لم يكن من الممكن إخفاء القلق من على الوجوه، خلال الانتخابات الرئاسية وأيضاً البرلمانية خوفاً من وصول اليمين المتطرف إلى سدة القرار، ما يعني في المحصلة إجراءات وقوانين جديدة تستهدف وجودهم، أو تجعله صعباً على الأقل!

يحتاج السوريون، أياً كان مكان وجودهم، إلى كسر وتحطيم الجدران النفسية التي تسبب بها استبداد وطغيان ومجازر النظام بحقهم، وإلى التشبث باليقين من أن بقاءه وبقاء كل القوى المستفيدة من وجوده، لا بد سيطيل من عمر وفعالية كارثتهم.

لم يخطط الألمان يوماً لتدمير الجدار، كان الأمر يكاد  يكون مستحيلاً، كما كان السوريون يظنون، قبل أن يمضوا في الثورة صوب مستقبلهم.