الثورة في ذكراها الثانية عشرة

2023.03.13 | 05:56 دمشق

ذكرى الثورة السورية
+A
حجم الخط
-A

قبل أن ينتهي آذار 2011، وعلى طاولة كانت في حالة انعقاد دائم ضمّت مجموعة من الأصدقاء؛ قال أحدهم: «النظام سقط.. والباقي تفاصيل».

أعجبتني الجملة بسبب اختزالها واحترافها، نتيجة عمل قائلها لسنوات في الصحافة العربية، وأساساً لأنها جاءت على هوانا المتلهف إلى طيّ عهد الأسدين، دون أن نعرف أن «التفاصيل» ستطول كل هذه الأعوام وستكون على هذا القدر من التوحش والتعقيد والتشويش.

يبدو الإصرار على رفع الشعارات الأولى للثورة حتى اليوم نوعاً من المكابرة في نظر الكثيرين، وتثبتاً على زمن جميل لا يستعاد. فهل أصاب التخشب من لا يملون من تكرار أن «الثورة مستمرة» وأن «لا فناء لثائر»؟

للإجابة عن ذلك ربما ينفع أن نتذكر ظروف نشأة هذه الشعارات في حالة بكر من التعرف على الذات. فالسوريون، الذين لم يكونوا يتصورون أن الربيع العربي سيتجاوز حدودهم المسيّجة بالقمع، وجدوا أنفسهم وسط مظاهرات عنيدة كالنار، ما إن تخمد هنا موقتاً حتى تندلع هناك. وبهذا تقووا ببعضهم، أفراداً وجماعات. ولم يكن من اللائق، ضمن هذه النضالية، إلا أن تبرز شعارات تعلي من شأن التضامن الأهلي والوطني، وترفع الثائر إلى مصاف البطل الذي كان يتصدى للرصاص بالفعل. ولعله من العسير أن نجد سورياً معارضاً قاوم لحظة البكاء الحار حين شارك في أول مظاهرة، أو شاهدها على الشاشات.

وهكذا وقع جمهور الثائرين في أحابيل خدعة لم ينسجها أحد ولم يكن بالمستطاع تجنبها، لم يكونوا يعرفون أنفسهم ومجتمعهم/مجتمعاتهم بشكل جيد، فتصوروا أن السموّ الذي يعايشونه سيستمر إلى الأبد أو حتى لحظة سقوط النظام، وهو الأمر الذي بدا وشيكاً جداً وفق «حسابات» تفتقر إلى الخبرة بتعقيدات الوضعين الداخلي والخارجي.

في الواقع يمكن لوم القليلين فقط على «سوء التقدير» هذا، أو لا يمكن لوم أحد طالما أن ندرة من أقل القليلين حذرت من الإفراط في التفاؤل، لكن المشاعر العارمة تخطت تنبيهاتهم وحشرتهم في إطار من التوبيخ العام وربما التخوين. وهنا أيضاً يصعب اللوم، فالثورات حراك شعبي مكتظ بالانفعالات لا بالحسابات «الحكيمة».

وهكذا وقع جمهور الثائرين في أحابيل خدعة لم ينسجها أحد ولم يكن بالمستطاع تجنبها. لم يكونوا يعرفون أنفسهم ومجتمعهم/مجتمعاتهم بشكل جيد، فتصوروا أن السموّ الذي يعايشونه سيستمر إلى الأبد

ما حصل بعد ذلك معروف. ويمكن اختصاره في محاور ثلاثة؛ الأول هو انحياز قطاع واسع من السوريين للنظام أو حيادهم، والثاني انخراط حلفائه الخارجيين في دعمه إلى درجة غير مسبوقة، والثالث وقوع القضية السورية في زاوية من الاستعصاء الدولي. وقد أدت شبكة التفاعلات الناجمة عن هذه العوامل إلى تفكك الصورة المثالية البكر للثورة ووقوعها في شبكة إحداثيات مدوّخة، مما أفضى إلى انفراط عقد الثائرين، المتجمّعين على عجل أساساً، وتفرقهم على معايير شتى؛ إسلاميين وحداثيين، مناطقيين بحسب بلداتهم وعشائريين وفق قبائلهم، مدنيين وعسكريين، فصائل وكتائب وألوية، لاجئين ومهجرين ومتشبثين بأرضهم، دواعش وجيش حر وما بينهما، مصابين وسكان خيام، متضررين ومستفيدين..

لا يشبه هذا في شيء ذلك المشهد الأول البسيط الذي ينقسم فيه السوريون إلى ثوار وشبيحة، حيث ينفصل العالم إلى معسكرين من الخير والشر. ولا يمثل الثورة كما يصفها الشعراء، بوصفها تسامياً أخلاقياً مستداماً ونبعاً لا ينضب من فداء المجموع. وربما بالنظر إلى هذه المقارنة يرى الكثيرون أن الثورة انتهت.

وفي الواقع أن أي ثورة لا تشبه الصورة التي يقدمها الخطباء، فهي انتفاض مجموعة من السكان على ظلم مديد، بما يملكونه من تدرج مستويات الوعي وما يفرق بينهم من تباينات وما سينشأ في نفوسهم من مخاوف ومطامع. وهي نشاط مضطرب يسم مراحل انتقالية دموية من التغيير، ولذلك حملت ندرة منها وصف «الثورة البيضاء» حين لا يقع فيها عنف، بخلاف المعتاد. والأصل في البشر، وثوراتهم، أن يميلوا إلى البحث عن خلاصاتهم الفردية حين يتعثر الطريق. وفي حالة مرور أكثر من عِقد من القتل والجرائم المختلفة فإن ما نعاينه اليوم من فوضى هو نتيجة «طبيعية»، وإن كانت مأساوية ولا تسر الخاطر بالطبع.

ما يؤذن بنهاية ثورة هو استعادة الوضع الذي كان قبلها، وهو ما يسعى إليه بشار الأسد بكل قواه الكليلة دون جدوى. ففي الشمال المحرر تسكن خلاصة من اعترضوا عليه وتصلب عداؤهم له، وفي المناطق التي يسيطر عليها يسود تذمر غير مضمون النتائج في ظل وضع معيشي مختل لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، في حين تسير «الإدارة الذاتية» في دربها الخاص الذي لا يستطيع إعاقته ولا التصالح معه. يعاني حلفاؤه الخارجيون من مصاعبهم الذاتية ومع المجتمع الدولي ومن علاقتهم الشائكة معه وفي ما بينهم. خصومه في العالم عنيدون وإن كانوا غير فاعلين مباشرة، وهم ينتظرون سقوط ورقته التي تصفرّ وتشحب يوماً بعد يوم. بينما تطرد التعقيدات أي دولة تضجر من الجمود وتحاول الانفتاح عليه.

ليس مصير نظام كهذا إلا السقوط «في النهاية». مشكلتنا أن هذه النهاية ابتعدت كثيراً عما كنا نأمل ونتوقع، وأن تناوب الأمل والإحباط أطفأ في نفوس الكثيرين طاقة الحلم. لا سيما أن رحيل نظام الأسد، على أهميته، لم يعد باباً واعداً بمستقبل سهل ومشرق، بل خطوة في طريق طويل وصعب. لكنه سقط، وإن لم يكن ما جرى وسيجري تفاصيل.