الثورة السورية وخطر السقوط بالتقادم

2022.08.24 | 05:47 دمشق

آخر تحديث: 24.08.2022 | 05:47 دمشق

الثورة السورية وخطر السقوط بالتقادم
+A
حجم الخط
-A

يولد المرء على دين أبيه هكذا قالوا دائماً، وربما لا يرث الأبناء أشكال آبائهم وأسماءهم ومواصفاتهم وطبائعهم فحسب، بل قد يتبع الطفل في الغالب معتقدات أسرته وولاءها وأحلامها وكثيرا من الأشياء التي يبدو أنه يصعب التحرر منها عند النضج، فــ"العلم في الصغر كالنقش في الحجر".

ومن أجل الإنصاف لا يمكن القول بأن الوراثة وحدها هي العامل المؤثر في تحديد شخصية الإنسان وتوجيه اهتماماته، فالبيئة قد تخلف بصمتها التي لا يبدو أنها قابلة للزوال وقد يكون لها الأثر الأكبر ضمن الشروط التي يعيش فيها السوريون اليوم، ذلك أنها تغدو عاملاً مسيطراً وموجهاً لميول ومستقبل السوريين وأبنائهم في ظل شتات طويل نعاني منه جميعاً.

بعد الشتات السوري أصبحت خريطة وجود السوريين الذين انتشروا في جغرافيا العالم عصية على الاستيعاب والتقبل، وأصبحت العائلة الواحدة تضم أبناء من جنسيات مختلفة الذين بدورهم سينجبون أبناء يصبحون غير سوريين بالمولد أو بالنشأة، قد يبدو ذلك أمرا طبيعيا في البلاد التي تعاني من حروب أو كوارث، ولكن ذلك قد يكون محط تساؤل بسبب خصوصية حالتنا إذ كيف من الممكن أن يكون تأثير ذلك على قضيتنا كسوريين؟ ونحن في خضم نضال نسعى جاهدين فيه أن نبقي قضيتنا حية وألا نسمح للعالم بتزوير الحقائق والتاريخ أو تبديد الفكرة الأساسية التي قامت من أجلها ثورتنا.

على الرغم من الانتكاسات المتتالية التي منيت بها الثورة، إلا أن التخوف الأكبر أن القضية قد تنسى مع الوقت وقد يكون الجيل الجديد يدين بولاءات لدول احتضنته ونشأ على أرضها

من الجلي أن الثورة السورية تعاني أزمة كبيرة وأكثر بل وتتعرض إلى تواطؤ عام وأزمة حقيقية بشأن الولاءات، خاصة أن عدداً لا يستهان به من الجيل المعاصر بدأ يتململ ويتسرب إليه اليأس بسبب انعدام الأفق وطول مدة الانتظار، والبعض بدأ يشعر بالانتماء إلى دولته الجديدة ويميل إلى الإخلاص لها حتى وإن كانت لا تقدم شيئاً لبقية السوريين بل وتطعن قضيتهم في الخاصرة، عدا عن الأعداد الكبيرة من غير المعنيين أصلاً بمسألة حقوق الإنسان والحقوق السياسية، وعلى الرغم من الانتكاسات المتتالية التي منيت بها الثورة، إلا أن التخوف الأكبر أن القضية قد تنسى مع الوقت وقد يكون الجيل الجديد يدين بولاءات لدول احتضنته ونشأ على أرضها، وبالتالي لم يعد مؤمناً بما آمن به أسلافه من قبل ولا يفكر بالطريقة نفسها وغير مضطر أصلاً إلى قبول ذلك.

تبدو الفرضية التي نتحدث بشأنها هنا معقدة وتنضوي على مصادرة حق الإنسان في أن يعوض بوطن جديد يضمن له الحياة الكريمة ويمنحه الحقوق الإنسانية البديهية التي لم يحصل عليها في وطنه الأم، غير أن الفكرة الرئيسة التي أود التطرق إليها في هذه العجالة هي أن الشروط التي اجتمعت في لحظة تاريخية معينة وأدت إلى قيام الثورة السورية، أصبحت وبشكل طبيعي بسبب طول المدة الزمنية عرضة للتفتيت والذوبان مع وجود جيل جديد لا يحمل ذاكرة عن البلاد الأم، ولا يمكن أن يقدر وفقاً لحاله في الوقت الحاضر الظروف التي دفعت ذويه إلى الثورة والحالة التي أدت إلى نزوحهم وهجرتهم فيما بعد الأمر الذي تمخض عنه امتلاكه جنسية جديدة، وربما قد يكون مؤمناً بسردية مختلفة تماماً عن الحكاية الحقيقية التي نود أن يصدقها الرأي العام.

لا بد أن أي محاولة لترميم الجسور المتهالكة بين الجيلين ستكون محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصعوبات، لأنهم لا يمكلون ذاكرة حقيقية عن معاناة أجدادهم ولا يدركون شيئاً عن الاستبداد السياسي أو توحش الأجهزة الأمنية، وقد نعاني فجوة في التواصل بهذا الخصوص على وجه التحديد لأن أبناءنا الذين حظوا بولادة جديدة في بلاد تحترم وجود الإنسان أصبح وطنهم الأم غير الذي عرفناه في مراحل حياتنا، وبالتالي تختلف قضاياه وأولوياته ومشاعره، علاوة على أنه مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية الجديدة، فإن النتائج المحتملة أن تتفتت القضية السورية ببطء لتدخل أصوات جديدة غريبة على الأصوات السورية، أو أن يؤدي الحال إلى سقوط القضية بالتقادم بعد حين بسبب غياب مطالبة صاحب الحق بحقه.

الحقيقة التي نواجهها في هذا الصدد أننا وإن كنا نعاني شتاتاً مادياً وواقعياً يجعل من الصعب اجتماع الأصوات على فكرة واحدة، لكن القادم يبدو أكثر صعوبة، فقد أصبح الشتات السوري معنوياً بسبب اختلاف الأولويات لدى كل منا، في ظل غياب وجود هيئة سورية موحدة تتمتع بالقبول والثقة من السوريين وقادرة على أن تكون ممثلاً شرعياً قادراً على سرد الحكاية بموضوعية وتجديد المطالبة بحق السوريين.

الفئة الأكثر تضرراً ودفعاً لفاتورة هذه الحرب هم السوريون في المخيمات، لأنهم محرومون من أقل حقوقهم في وجود وثائق تثبت وجودهم وولادتهم

من باب الإنصاف أيضاً وإذا كنا نريد أن نحاكم الأمور بموضوعية، فإن مسألة اختلاف الجنسيات واتساع الهوة بين الجيلين من ناحية المبادئ والأفكار والقضايا واختلاف المشاريع الوطنية والسياسية، تبدو أهون الشرور لأنها أقل وطأة مما يحدث لسوريين آخرين لم يكونوا محظوظين بما يكفي ولم يساعدهم أحد في الوصول إلى أوطان جديدة والتمتع بحقوق إنسانية، إذ إن الفئة الأكثر تضرراً ودفعاً لفاتورة هذه الحرب هم السوريون في المخيمات، لأنهم محرومون من أقل حقوقهم في وجود وثائق تثبت وجودهم وولادتهم، فيكملون حياتهم يبحثون عن أقل المكتسبات الإنسانية في التسجيل في الأحوال المدنية الخاصة بوطنهم الأم، ما يعني أن مناقشة الحقوق السياسية والمبادئ والقضايا ترف ليس في متناول أيديهم لأنهم لم يحظوا بفرصة بلاد جديدة تحترم وجودهم وتمنحه قيمة إنسانية.